وافقت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي خلال جلسة لجمعيتها العامة على قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين، ولم يخلُ الاجتماع من بعد عاطفي واضح تجلى بداية عندما شرعت وفود الدول الأعضاء بالمنظمة الأممية في التصويت على قرار الانضمام، حيث ضجت القاعة بصيحات "عاشت فلسطين"، فيما أعلنت وفود دول مثل النمسا وفرنسا وروسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا نيتها التصويت لصالح انضمام الدولة الفلسطينية إلى اليونيسكو، وبالفعل حصدت فلسطين أغلبية تأييد كبيرة بواقع 107 أصوات مع الانضمام مقابل 14 صوتاً فقط ضده، وامتناع 52 دولة. وبالنسبة للمراقبين العقلاء يمثل هذا الانتصار الفلسطيني في محفل دولي مهم مثل اليونيسكو بداية طريق ممكنة نحو السلام الذي يهدف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق حل الدولتين، وخاصة أن هذا الحل، كما بات يسمى، يحظى بإجماع القوى الدولية ليس فقط من قبل اللجنة الرباعية التي تضم أميركا وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل أيضاً من الطرفين المعنيين، فلسطين وإسرائيل. ولكن مع ذلك ادعت إدارة أوباما وحكومة نتنياهو أن انضمام فلسطين إلى اليونيسكو كعضو كامل في اليونيسكو، أو إلى أي وكالة أممية أخرى يقوض عملية السلام، وهو ما دفعهم إلى تبني إجراءات عقابية ردّاً على الخطوة الفلسطينية، بحيث قررت واشنطن قطع إسهاماتها المالية إلى الوكالة الدولية فيما ذهبت إسرائيل إلى أكثر من ذلك من خلال معاقبة الفلسطينيين أنفسهم بسياسات استفزازية منها تجميد مستحقاتهم الضريبية وغير ذلك من مواقف متشنجة. وفي هذا الصدد أعلن نتنياهو عن تسريع وتيرة الاستيطان في القدس الشرقية، على رغم أنها سياسة تستنكرها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وواشنطن نفسها باعتبارها غير مشروعة وتهدد بتقويض عملية السلام. والحقيقة أننا أمام معضلة تستحق التوقف، فهذا الموقف المتناقض للولايات المتحدة وإسرائيل من انضمام فلسطين إلى الوكالات الدولية والادعاء بأن ذلك لا يخدم السلام في المنطقة يضعنا أمام أمرين: إما أن الفلسطينيين الذين يدعم موقفهم المجتمع الدولي على خطأ في مسعى الانضمام إلى وكالات الأمم المتحدة المختلفة لأن ذلك فعلاً يهدد فرص عملية السلام، أو أن مفهوم السلام كما تنظر إليه واشنطن وتل أبيب مفلس أصلاً من الناحية الفكرية والأخلاقية، وأنه في الحقيقة يكرس الصراع في الشرق الأوسط بدل تسويته! فعلى الجانب الفلسطيني لا يمكن إنكار أخطاء ارتكبت في السابق وكانت لها تداعيات كبرى مثل التصريح الأخير لرئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، للتلفزيون الإسرائيلي الذي اعترف فيه بالخطأ الفلسطيني في عدم قبول قرار التقسيم لعام 1947 الصادر عن الأمم المتحدة، وبالانطلاق في الانتفاضة الثانية في عام 2000، ولكن لماذا الاعتقاد اليوم بأن طلب فلسطين الانضمام إلى الوكالات الأممية يشكل خطأ وقد يؤدي إلى ضرب فرص السلام؟ فهذا المسلك الدبلوماسي يحظى في جميع الأحوال بدعم المجتمع الدولي الذي يتطلع إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط، كما أنه قائم على مرجعية دولية لتسوية الصراع وإنهائه. وللرد على مثل هذا السؤال المحير تطوعت صحيفة "وول ستريت جورنال" المعروفة بتأييدها للسياسات الإسرائيلية بالدفاع عن هذا المنطق قائلة إن سبب الزعم بأن انضمام فلسطين إلى الوكالات الدولية يقوض عملية السلام إنما يرجع إلى تنفير الأمر لإسرائيل واستعدائها، والحال أن هذا المنطق الغريب يقلب الموازين ويخلط الأوراق، بحيث تُبرأ ساحة المحُتل ويُساعد على التملص من التزاماته بموجب القانون الدولي فيما يوضع عبء عدم تنفير الُمحتل على الضحية ليستمر في الاحتلال ومصادرة الأراضي وممارسة العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين. وإذا كان تنفير الطرف المخاطَب يقوض السلام كما تدعي الولايات المتحدة، فإنه يحق للفلسطينيين الذين يعانون يوميّاً تحت ممارسات الاحتلال أن يجادلوا أيضاً بأن الاحتلال هو من يقضي على فرص السلام، وهنا يكمن الاختلاف الجوهري بين الموقف الإسرائيلي والأميركي من جهة والموقف الفلسطيني من جهة أخرى في فهمهما لمفهوم السلام والطريق إلى تحقيقه. فبالنسبة للفلسطينيين ترتكز عملية السلام على حل عادل ودائم يقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالاستناد إلى القانون الدولي وعلى رأسه مبدأ عدم قبول حيازة الأراضي عبر الحرب كما تشير إلى ذلك بوضوح ديباجة قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967، فيما يرتكز الموقف الأميركي الإسرائيلي على مبدأ ميزان القوى بين الطرفين، ما يفسر الدعوات المتكررة لتسوية الصراع من خلال المفاوضات الثنائية. والحال أن ميزان القوى يميل بشدة لصالح إسرائيل التي تحتل الأراضي الفلسطينية، بحيث يمكن للدولة العبرية التقدم بعرض ظالم إلى الجانب الفلسطيني بصرف النظر على انسجامه مع القانون الدولي، وكل ما يستطيع الفلسطينيون فعله هو قبول العرض أو رفضه، وفي حالة رفضه يمكن لإسرائيل الاستمرار في سياسة مصادرة الأراضي والاستيطان مع إلقاء اللوم على الجانب الفلسطيني باعتباره "عقبة أمام السلام". وإذا كان هناك من أمر كشفت عنه محاولات الفلسطينيين الانضمام إلى الوكالات الدولية فهو مدى إفلاس مفهوم السلام الذي تتبناه أميركا وإسرائيل، وهو ما عكسه خطاب أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما اعترف بفشل عملية السلام وراح يصطف إلى جانب إسرائيل، وعبر عنه أيضاً ساركوزي، في خطابه أمام المحفل نفسه بدعوته إلى إنهاء "سنوات من الفشل" في حل الصراع بالشرق الأوسط، فجاءت المساعي الفلسطينية الأخيرة لدى الأمم المتحدة لتفضح الفشل وتضع العالم أمام مسؤولياته، ما يحتم نموذجاً جديداً لتسوية الصراع يستند إلى مفهوم العدالة والقانون الدولي ويعكس القرارات الأممية ذات الصلة ويحاسب الأطراف بإرغامها على الوفاء بالتزاماتها الدولية، أما عملية السلام كما هي عليه اليوم فإنه يتعين دفنها وكتابة نعيها الذي يقول: "ماتت آلاف المرات بمحاولاتها المتكررة إعلاء القوة على الحق".