إن الاستثناء المغربي يكمن في هذه النقطة بالذات: إذا كانت الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية قد اقتسمت جزءاً من الشرعية النضالية والسياسية من خلال الدعوة الدينية، وإذا كانت أغلب هذه البلدان عرفت موجات من العنف والعنف المضاد كادت تتحول أحياناً إلى حروب أهلية... فإنها في المغرب، وبسبب إمارة المؤمنين، ظلت دائماً تفتقر للمشروعية وللدعم الجماهيري، طالما أن الدولة المغربية ذاتها تقوم على احتكار المشروعية الدينية. إن فصل الديني عن السياسي يقف عند حدود ما تحت المؤسسة الملكية، الأمر الذي حدا بكثير من المحللين إلى اعتبار الملكية صمام أمان ضد قوى المحافظة والتطرف. لكن الشواهد تدعونا إلى الحذر من المغالاة في تمجيد الاستثناء، فقد أظهر قيام جماعتي "السلفية الجهادية" و"الهجرة والتكفير"، واعتداءات الدار البيضاء، وتفجير مقهى "اركانة" بمراكش، وتفكيك العديد من الخلايا الإرهابية... ضرورة إعادة الاعتبار للتاريخ والجغرافيا والثقافة وسياقات المحيط الدولي والإقليمي، كعناصر أساسية في فهم سيرورة العنف الذي يتغذى من عناصر بعضها سياسي وسوسيواقتصادي وسيكولوجي وثقافي. ويؤكد التاريخ القريب أن العلاقات بين الدولة والحركات الإسلامية تأرجحت بين التوتر والمنازعة والمصالحة والاستيعاب، ففي بعض الأوقات سمحت السلطة بترويج الفكر الوهابي، كما تم توظيف الحركات الإسلامية في مواجهة الأحزاب الديمقراطية، وسمح لبعض الإسلاميين المعتدلين بالانخراط في الحقل السياسي، لكن في أوقات أخرى كانت لغة المواجهة هي الغالبة، خاصة حين أدى انخراط البلاد في الجبهة العالمية لمحاربة الإرهاب إلى تعزيز المقاربة الأمنية. وفضلا عن دور الفقر والبطالة ونقص الخدمات، فإن التحولات المجتمعية المتسارعة لعبت دوراً في نشر وبث العنف. وإذا كان الحديث عن الاستقرار يواجه بتنامي العنف في المجتمع المغربي، فإن الحديث عن الحرية والديمقراطية يرتبط بتنامي الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتغيير. وفي هذا السياق ظهرت حركات احتجاجية جديدة تتموقع خارج التأطير الأيديولوجي والسياسي للدولة وللأحزاب السياسية التقليدية، فلا هي تؤمن بالشرعية التاريخية ومراجعها الفكرية، ولا هي تؤمن بالشرعية الوطنية والديمقراطية. إنها حركة شباب 20 فبراير التي ظهرت مع بداية الربيع العربي، مباشرة عقب الثورتين التونسية والمصرية، وكان قوامها الشرائح الحضرية المطالبة بالتغيير. لقد وجدت هذه الحركة تجاوباً كبيراً مع مطالبها السلمية، وكانت وراء تعديل الدستور وإعلان انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، كما كشفت شيخوخة وترهل النخب السياسية التقليدية، وابتعادها عن القضايا الحيوية للمجتمع المغربي، وأبانت عن تراجع تأثير الحركات الإسلامية الراديكالية، وعن انحسار تأثير الفكر السلفي الجهادي وتنظيمات الفكر المتطرف وعجزها عن التغلغل داخل الشرائح الشبابية. خلاصة القول إنه إذا كانت المشروعية الدينية وفرت لحد الآن غطاءً أيديولوجيا سميكاً للحيلولة دون انحدار البلاد إلى دوامة عنف الحركات الإسلامية والعنف المضاد، واستطاعت احتواء القوى الإسلامية المناهضة للعنف محققة استثناءً في المنطقة، فإن الاستمرار في تبني نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية سيؤدي إلى مزيد من الفقر والبطالة والحرمان وسيعمق الفوارق الاجتماعية، مما ستكون له آثار غير مرضية على الاستقرار والحرية. وبالمقابل فإن المشروعية التقليدية ستبقى حاجزاً أمام تعميق المسار الديمقراطي الذي لا يعترف إلا بالشرعية العقلانية التعاقدية، والتي تكون الدولة المدنية شكلها القانوني والدستوري. وسيصبح الاستثناء أكثر جدارة إذا تم اعتماد مقاربة شمولية للعنف تقوم بتجفيف منابعه، وفي نفس الوقت تعمّق الطابع المدني للدولة وتعزز الاختيار الديمقراطي. ----- عصام العدوني كاتب مغربي ------ ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"