في الأسبوع الماضي، وبينما كان الحزب الجمهوري منشغل البال بتهم التحرش الجنسي الموجهة إلى هيرمان كين، أحد مرشحيه الأوفر حظاً في السباق الداخلي على الفوز بترشيح الحزب لانتخابات الرئاسة في العام القادم... كان مرشح رئاسي جمهوري آخر يصنع الأخبار على طريقته الخاصة والتي تتسم بالهدوء. لقد بزغ نجم حاكم ولاية يوتا السابق جون هنتسمان كواحد من أكثر المنافسين الجمهوريين دراية ومعرفة، بل في نظر الكثيرين من أكثرهم عقلانية عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وبقضايا عالمية أخرى كالتغير المناخي على سبيل المثال. وعلى الرغم من حقيقة أن حظوظ هنتسمان لا تبدو كبيرة في الفوز، إلا أن لحضوره في الحياة السياسية أهمية خاصة، وذلك لأنه يمثل مفهوم الوسطية في السياسة الخارجية، أي تلك الخاصية الغائبة في سير وخطابات منافسيه الآخرين في السباق الداخلي. وقد تم اختيار هنتسمان قبل عامين من قبل أوباما كسفير لأميركا لدى الصين، حيث ظل يشغل ذلك المنصب حتى شهر أبريل الماضي. وربما يمثل ذلك المنصب أكثر المواقع الدبلوماسية أهمية لأميركا، لما تتميز به خصوصية السياسة الاقتصادية والأمنية الصينية، وكذلك نظر إلى الطابع الاستثنائي للعلاقات الصينية الأميركية. ومن الجدير بالذكر هنا أن الرجل يتحدث شيئاً من لغة المندرين، حيث عاش لبعض الوقت في تايوان (الصين الوطنية)، كما سبق أن مثل أميركا بكفاءة (حسب كل المقاييس)، وبعزة نفس كذلك، طيلة الفترة التي قضاها في العاصمة الصينية بكين. ومما يثير السخرية أن الخدمة التي قدمها هنتسمان للبلاد تم استغلالها ضده من قبل الجمهوريين الذين ينظرون للسياسة الدولية والعلاقات الخارجية من الزاوية الحزبية الضيقة والذين يعتبرون أي تعاون مع إدارة أوباما خيانة. ويعكس مثل هذا التصرف عدم وجود مركز قوي في هيكل السياسة الأميركية. ليس اعتدال هنتسمان وحده المعروف بتماشيه مع الحياة، لكن الرجل يملك سجلاً شديد المحافظة على شؤون المال، كما أنه يؤيد توزيع قسائم الغذاء في المدارس وحقوق امتلاك الأسلحة، هذا بالإضافة إلى موقفه الداعم للجهود الرامية نحو تأمين موارد الطاقة وتحقيق استقلال للولايات المتحدة في هذا المجال، بما في ذلك تطوير مخزون النفط والغاز الذي لم يتم استخراجه بعد في أميركا وخارجها. كما يعرف عن هنتسمان انتقاده السياسات التنظيمية التي أدت إلى بطء الاستثمارات والابتكارات والسياسة التي تنتهجها إدارة أوباما في ما يتعلق بالاقتصاد الأميركي. لكنه لا يختلف كثيراً مع الإدارة الأميركية في أسلوب تناولها لكثير من قضايا السياسة الخارجية. وأولاً، وقبل كل شيء، يؤمن هنتسمان بأن أمتنا ضعيفة في الوقت الحالي، وبأن الشعب الأميركي طاله الضرر، كما لا يمكن لأميركا إثبات قوتها في الخارج بينما تعاني أعراض الضعف في الداخل. وبلا شك فمن الواضح أننا فقدنا كثيراً من النفوذ على صعيد المجتمع الدولي، وهذا ما تجلت آثاره في العلاقة بالعديد من حلفائنا. ويعني ذلك بعبارة أخرى، أنه ينبغي على أميركا أن تعيد ترتيب أوراقها الداخلية في حالة ما إذا أرادت أن تسعي مجدداً لاستعادة وضعها الدولي كقوة عظمى ذات احترام ومصداقية. ويرى هنتسمان أنه يترتب على السياسة الأميركية الخارجية أن ترتكز على توسيع رقعتها، ليس العسكرية فحسب، ولكن أيضاً توسيع مجال المنافسة والمشاركة العالمية من خلال الشراكات والاتفاقيات التجارية المفيدة والنشطة. وفي هذا الخصوص، يطمح هنتسمان إلى فتح أسواق تسير وفق سيادة القانون في آسيا، وذلك على وجه الخصوص من خلال المشاركة الفعالة والإيجابية في جولة مفاوضات الدوحة للتنمية في إطار "منظمة التجارة العالمية"، والعمل على جعل السياسات التجارية الصينية أكثر تنافسية وتوازناً. كما يعارض هنتسمان الهندسة الاجتماعية التي تحاول الولايات المتحدة فرضها في بعض الدول الأخرى، مشيراً في هذا الخصوص إلى الإخفاق الأميركي في هندسة مدن البلاد. ويرى أنه من مظاهر الغطرسة الثقافية أن تعتقد أميركا أنها قادرة على تحويل القادة القبليين في أفغانستان أو العراق إلى قادة ديمقراطيين. وهو يدرك مثلاً أن باكستان هي الوحيدة التي تملك المقدرة على إنقاذ نفسها، وكذلك الحال بالنسبة لدول أخرى مثل أفغانستان إذا ما توفرت لها شروط القرار الذاتي. كما اتخذ موقفاً يشاركه فيه العديد من أفراد الشعب الأميركي، ومفاده باختصار أنه ليس بإمكاننا فرض تغييرات جذرية على أي شعب ذي حضارة قديمة من على بُعد. كما يدعم ترشح الهند لتصبح عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي. وإلى ذلك يشدد على الأهمية المتزايدة لنصف الكرة الغربي، والأسباب التي تدفع أميركا لإنفاق المزيد من الأموال والوقت للعمل اللصيق مع الدول المجاورة مثل المكسيك والبرازيل. وفيما يتعلق بالتغير المناخي وما صاحبه من تطورات، تلك القضية التي لا يوليها المرشحون الآخرون ما يكفي من الاهتمام، يوضح هنتسمان موقفه ببساطة قائلاً إنه ليس من الممكن بتاتاً إغفال التحدي المناخي الذي يقرره العلم وتبينه الشواهد اليومية. وبشكل عام فإن مواقف الرجل كثيراً ما كانت عقلانية ومنطقية ومدعمة بالحجة والبرهان، خاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة والدفاع على الصعيد الخارجي. وربما يكون اجتهاده في السياسات الرئاسية لحملة عام 2012، ليست إلا تمهيداً لجهد آخر أكثر جدية للحملة التي تليها في عام 2016. وأخيراً، تبقى الحقيقة هي أن هنتسمان يمثل سلالة نادرة من الجمهوريين في هذه الأيام، وشخصاً يتمتع بدهاء يمكنه من الوصول إلى بواطن الأمور في النظام العالمي المتغير، لاسيما الدور الرئيس الذي ينبغي أن تلعبه العلاقات الاقتصادية في الاستراتيجية الأميركية على وجه العموم.