واجه مسيحيو الشرق تجربتين مُرّتين أثارتا قلقهم ومخاوفهم. كان العراق مسرح التجربة الأولى. فالإطاحة بحكم صدام حسين الذي تميز بالاستبداد والتفرد بالسلطة، أطلق العنان بعد سقوطه أمام حركات التطرف الديني. وكان المسيحيون العراقيون ضحايا هذا التطرف. إذ هدمت كنائس وأحرقت بيوت ونهبت، وقتل رهبان وهجرت عائلات مسيحية. ونتيجة لذلك انخفضت نسبة المسيحيين العراقيين إلى ما دون الربع عما كانت عليه قبل التغيير. لم يكن العراق في ظل النظام السابق جنة عدن بالنسبة للمسيحيين، ولكن ما حدث بعد سقوط النظام جعل من العراق بالنسبة إليهم جهنم وبئس المصير. وقد امتد القلق والخوف من العراق إلى دول المنطقة العربية الأخرى، وخاصة إلى مسيحيي سوريا ولبنان والأردن الذين استقبلوا أعداداً كبيرة من المهاجرين المسيحيين العراقيين، وذعروا للقصص المرعبة التي نقلوها معهم عن المعاناة التي مروا بها. أما التجربة الثانية فكانت مصر مسرحها. قبل التغيير كان المسيحيون يرفعون الصوت شاكين من القيود التي تفرض عليهم لبناء الكنائس وترميمها، أو لتطبيق شعائرهم الخاصة في الأحوال الشخصية. أو حتى للسقف المنخفض لمشاركتهم في المؤسسات السياسية والإدارية والأمنية. ولكن بعد الثورة التي أطاحت بالحكم السابق بدا لمسيحيي مصر أن الوضع لم يتحسّن. وجاء الاعتداء على إحدى كنائس القاهرة وإحراقها، ليوحي بالعكس. في العراق وجد المسيحيون أنفسهم بين مطرقة متطرفي الشيعة وسندان متطرفي السنّة. أو بين سيف الأكراد وسكين التركمان. فدفعوا ثمن ذلك غاليّاً. وفي مصر وجد المسيحيون أنفسهم ضحايا التنافس بين حركة السلفية وجماعة "الإخوان المسلمين". وفي ضوء مرارة التجربتين، يقف المسيحيون العرب من الأحداث التي تعصف بسوريا منذ أكثر من ستة أشهر موقف الخائف على المستقبل والقلق على المصير. وأكثر من يعكس هذا الخوف والقلق هم مسيحيو سوريا ولبنان، وذلك نظراً للعلاقات العميقة التي تربط البلدين والتي تربط أيضاً شعبيهما، مسلمين كانوا أو مسيحيين. في الأول من سبتمبر 1920، أعلن الجنرال الفرنسي "فيليب غورو" ولادة لبنان الكبير. وقد أطلقت صفة الكبير على جبل لبنان بعد ضم أربعة أقضية كانت حتى ذلك الوقت جزءاً من سوريا. وجاء إعلان هذه الولادة من على درج مقر المفوض السامي الفرنسي في بيروت "قصر الصنوبر" الذي أصبح الآن مقراً لمنزل السفير الفرنسي المعتمد في لبنان. يومها شعر سكان هذه الأقضية الأربعة وكأنهم سلخوا عن الوطن الأم، لصناعة وطن جديد لم تتبلور معالمه أو هويته. ولذلك لم يؤيد المسلمون الإعلان الفرنسي، وإن كان مفتي بيروت في ذلك الوقت الشيخ مصطفى نجا أحد الشهود الذين حضروا مراسم الولادة على يد الجنرال "غورو". وفي اليوم التالي للإعلان، توجه الجنرال الفرنسي إلى دمشق ليعلن من هناك في الثاني من سبتمبر ولادة ثلاث دول جديدة هي دولة حلب، ودولة الشام، والدولة العلوية. ولم تثمر معارضة مسلمي لبنان الكبير في تغيير الواقع. إذ إنهم سرعان ما تأقلموا مع الوضع الجديد خاصة بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1943. أما في سوريا فكان الأمر مختلفاً. إذ نشبت ثورة ضد تقسيم الدولة إلى ثلاث دول. ونجحت الثورة ليس فقط في الاستقلال عن فرنسا، ولكنها نجحت أيضاً في إسقاط مشروع الدول الثلاث، والمحافظة على وحدة الدولة الواحدة. وفي الأساس انطلق مشروع التقسيم من نتائج معركة ميسلون (موقع على مدخل دمشق) بين قوات الشريف فيصل بقيادة يوسف العظمة الذي استشهد في المعركة، والقوات الفرنسية، كانت الغلبة فيها للفرنسيين الذين كانوا أكثر عدداً وأفضل عدة، وأكثر استعداداً. صحيح أن السوريين خسروا المعركة العسكرية، ولكنهم ربحوا الحرب في منع تفتيت سوريا وتقسيمها. كان في نية الجنرال "غورو" إقامة اتحاد فيدرالي بين الدول الثلاث ولبنان الكبير. ولكن البطريرك الماروني إلياس الحويك اعتبر الاتحاد انتقاصاً من استقلال لبنان، فيما رفض السوريون من حيث المبدأ التخلي عن الأقضية الأربعة، كما رفضوا من حيث المبدأ أيضاً تقسيم بلادهم إلى ثلاث دول مذهبية وطائفية! وبالنتيجة خسرت سوريا لواء الإسكندرون الذي منح إلى تركيا كجائزة ترضية. ولم تسقط علامة الاستفهام حول ولادة لبنان الكبير. بعد استقلال سوريا عن فرنسا تولى مسيحي سوري هو فارس الخوري- رئاسة حكومتها ووزارة خارجيتها وكان ناطقاً باسمها في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية الأخرى. وهو الدور الذي لعبه في لبنان ومنه أيضاً، رياض الصلح إلى أن امتدت يد الغدر فاغتالته في عمان بالأردن. وفرت مرحلة ما بعد الاستقلال عن فرنسا الطمأنينة لمسيحيي سوريا ولبنان. وكانت الدولة الوطنية أساس هذا الاطمئنان على رغم اختلاف الأنظمة السياسية (والاقتصادية) التي اعتمدت في كل منهما. فقد اعتمد لبنان، بعكس سوريا، نظاماً سياسيّاً طائفيّاً (بصورة مؤقتة كما نص على ذلك الدستور) ونظاماً اقتصاديّاً حرّاً. فيما اعتمدت سوريا نظاماً سياسيّاً لا طائفيّاً ونظاماً اقتصاديّاً موجهاً. غير أن المتغيرات التي تعصف بسوريا اليوم تثير قلق مسيحييها كما تثير قلق مسيحيي لبنان. ومصدر قلق مسيحيي سوريا هو التخوف من أن تؤول السلطة إلى متطرفين إسلاميين يرفعون شعار -أو أنهم لا يزالون يؤمنون؟- بصيغة الذمِّية في التعامل مع غير المسلمين. علماً بأن هذه الصيغة عفا عليها الزمن، وهي ليست جزءاً من الشريعة الإسلامية، ولكنها كانت مجرد اجتهاد تنظيمي اعتمده المسلمون في مرحلة تاريخية محددة. ويعزز هذه المخاوف وقائع التجربتين المريرتين في كل من العراق ومصر. أما قلق مسيحيي لبنان، فمصدره اعتقادهم أن هيمنة الإسلاميين في سوريا على السلطة سوف تعزز من طموحات الإسلاميين في لبنان، الأمر الذي يؤدي إلى خلل في ميزان القوى لغير مصلحة المسيحيين. وهو ما أشار إليه البطريرك الماروني بشارة الراعي في تصريحاته التي أثارت لغطاً واسع النطاق وقد أدلى بها في فرنسا بعد لقائه ساركوزي. وحتى لا تبدو هذه التصريحات المثيرة للجدل وكأنها تعبر عن موقف فرنسي أيضاً، بادرت فرنسا على لسان سفيرها في لبنان الى الإعلان عن "خيبة أملها" من هذه التصريحات. وهذه سابقة في تاريخ العلاقات بين فرنسا والبطريركية المارونية. وعندما جرى التعامل مع هذه المخاوف وكأنها تحدد موقفاً مسيحيّاً رسميّاً -وهي ليست كذلك- اتخذ البطريرك مبادرة بالدعوة إلى عقد قمة روحية إسلامية مسيحية في دار الفتوى في بيروت لتوضيح تصريحاته. وقد صدر عن هذه القمة بيان مشترك أكد على أن "الأحداث الجارية في البلدان العربية بشعارات الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، تتيح فرصاً كما قد تثير هواجس لدى بعض الفئات الدينية والاجتماعية والمطلوب من الجميع الحرص على الإصلاح والتطوير والانفتاح ومراعاة الإرادة الشعبية من أجل تبديد كل الهواجس ووجوه القلق وتعزيز الثقة بالعيش الواحد، والحرص في الوقت ذاته على أمن المجتمعات والانسجام بين فئاتها، وصون المصالح الوطنية والقومية. مع التأكيد على رفض أي امتهان أو تعدٍّ على الحقوق الإنسانية والوطنية ورفض كل أنواع الظلم والاستبداد". واليوم عندما ينظر مسيحيو الشرق إلى ما آل إليه الوضع في العراق من تصدع عنصري وديني ومذهبي، وما انتهى إليه السودان من تقسيم بين الشمال والجنوب، وعندما يواكبون الشعارات التي ترفعها حركات التطرف الديني في مصر وليبيا وحتى في تونس، فإنهم يبدون مخاوف تفسر على أنها دفاع عن الأنظمة القائمة. وهو ما بات يعرف بمعادلة قبول السيئ خوفاً مما هو أسوأ. ومن هنا أهمية المواقف المبدئية التي أعلنها الأزهر الشريف والتي تؤكد على الدولة الوطنية واحترام حقوق الإنسان والحريات الدينية والمساواة في المواطنة. وتشكل هذه المواقف أساساً لعقد اجتماعي جديد من شأنه تبديد مخاوف مسيحيي الشرق وتثبيت أقدامهم في أوطانهم العربية.