لو تابعنا بدقة الأحداث التي وقعت في مصر بعد 25 يناير، فسندرك أنه بدلاً من العمل المنهجي المنظم لتحقيق شعار الثورة الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام"، بذلت قوى سياسية داخلية وخارجية جهودها ليس لإسقاط النظام فقط ولكن لإسقاط الدولة أيضاً! والعمل المنهجي لإسقاط النظام كان يقتضي عدم القناعة بالمحاكمة الجنائية للرئيس السابق ورموز النظام فقط، ولكن أهم من ذلك كله إسقاط السياسات المنحرفة التي طبقها النظام السابق. وكما أشرنا في مقالنا الماضي لم يستطع شباب الثوار تكوين جبهة ثورية من مهامها إسقاط سياسات النظام السابق، عن طريق النقد الموضوعي واقتراح بدائل لها، وضعاً في الاعتبار تحولات المجتمع العالمي والظروف المحلية الخاصة بمصر. وهذا النقد الشامل كان ينبغي أن يسبق محاولة رسم صور للمستقبل المصري، من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. غير أن ذلك لم يحدث، وأخطر من هذا التقصير محاولات هدم أركان الدولة والانتقاص من هيبتها، وإثبات عجزها عن إعمال مبدأ سيادة القانون. ولعل الحوادث الخاصة بالاعتداء على أقسام الشرطة وحرق بعضها، والعدوان غير المشروع على رجال الشرطة تم في إطار هستيريا النقد المرسل ضد جهاز الشرطة عموماً. وقد أدى هذا النقد الذي أصاب الشرطة بوجه عام وليس عدداً محدوداً فقط من ضباط أمن الدولة المنحرفين، إلى خلق فجوة بين الشرطة والشعب، لم ترسم حتى الآن خطة استراتيجية شاملة لمواجهتها، مما أدى إلى شيوع الانفلات الأمني على نطاق واسع، وقد أدى هذا الوضع إلى تهديد أمن المواطنين. غير أن الأخطر من ذلك هو الهجوم المشبوه الذي قام به عدد من المثقفين الذين تصدروا مشهد الثورة في الفضائيات وكأنهم هم الذين خططوا لها ونفذوها، ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وهذا الهجوم تجاوز النقد السياسي المشروع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره من يقوم بإدارة البلاد، إلى التشكيك في شرعيته وفي نواياه وفي القرارات التي يصدرها، حتى لو كانت نتيجة مشاورات مع قوى سياسية متعددة. وانتقل هذا الهجوم الخبيث إلى لغة الشارع بكل ما تزخر به من شعارات غير مسؤولة، تطلقها تيارات سياسية لا تلتزم بقواعد المسؤولية الوطنية ليصبح هتافات ضد حكم "العسكر". وقد لاحظنا أن بعض القوى السياسية التي تريد الانقضاض على الدولة تدعو إلى إنهاء مهمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل أوانها، وتسليم السلطة إلى مجلس مدني يدير البلاد بدلاً منه! ومعنى ذلك بكل بساطة حرمان الدولة المصرية من السند الرئيسي للشرعية السياسية والتي يمثلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ووضع المجتمع كله في مهب الخطر. وذلك لأن هذا المجلس المدني المزعوم الذي لن يتشكل إلا من خلال صراعات سياسية دموية بين كافة الأطراف المتنافسة على احتكار السلطة في مصر، لن يستطيع على وجه الإطلاق في غيبة القوة الرادعة للقوات المسلحة أن يصدر قراراً واحداً قابلاً للتنفيذ. وإذا تركنا جانباً الآن ظواهر الانفلات الأمني الخطيرة والدعوات المشبوهة لهدم أركان الدولة، وانتقلنا إلى مجال السلوك الاجتماعي الذي تمارسه النخب السياسية والجماهير الشعبية على السواء، فسنكتشف أن المجتمع المصري الآن يمر بمرحلة خطيرة تتسم بالتفكك الاجتماعي الجسيم. والتفكك الاجتماعي -كما هو معروف في علم الاجتماع- يتم نتيجة الانفلات من المعايير والقيم بل والانقلاب الصريح عليها، وممارسة سلوك غوغائي من خلال رفع شعارات تنادي بالعدالة والحرية ولكن على غير أساس. وحتى لا يكون حديثنا مجرداً لنضرب عدداً من الأمثلة على حالات الانفلات السلوكي الذي مارسته بعض فئات الجماهير وبعض فئات النخبة. حين نطالع في الصحف أن عمال شركة في دمنهور هاجموا رئيس الشركة واتهموه بالظلم وطالبوا بإقالته ثم حاصروه في مكتبه واعتدوا عليه بالضرب حتى مات متأثراً بإصابته! ماذا يسمى هذا السلوك الهمجي الذي تم تحت شعار المطالبة بالعدالة؟ وفي نموذج خطير للانفلات السلوكي والانقلاب على كافة المعايير، أحاط عدد من موظفي وعمال هيئة الاتصالات برئيس الهيئة الذي كان في زيارة تفقدية لسنترال الأوبرا، وحبسوه في غرفة لمدة سبع عشرة ساعة حتى "حررته" قوات الأمن! ما هو وصف هذا السلوك الذي يطعن قيم التعامل بين الرؤساء والمرؤوسين في الصميم؟ وإذا نظرنا إلى مظاهرات أمناء الشرطة التي تمت أمام وزارة الداخلية، وقد رفعت شعارات تدعو لبعض المطالب المشروعة في ذاتها وإن كانت رفعت شعارات أخرى تدعو لإقالة وزير الداخلية وتطهير الوزارة من القيادات، أليست هذه هي ذروة الاعتداء على قواعد الضبط والربط العسكري؟ وكان قد نشر من قبل أن عدداً من أمناء الشرطة في إحدى المحافظات أغلقوا باب قسم الشرطة بالجنازير ومنعوا الضباط من دخوله! وإذا انتقلنا إلى السلوك الغوغائي لبعض شرائح النخب المهنية المصرية، كيف نصف سلوك المحامين في بعض المحافظات الذين أغلقوا أبواب المحاكم ومنعوا القضاة ووكلاء النيابة من الدخول؟ وكيف نصف قرار بعض القضاة -وإن كان معقولاً في ذاته- بتعليق الحكم في الجلسات، إلى أن يتم تأمين المحاكم من "بلطجة" الجماهير التي أصبحت تحتج على الأحكام في جلسات المحاكم وتعتدي على القضاة، وإلى غوغائية بعض المحامين! وكيف نصف اقتحام جموع المحامين لدار القضاء العالي التي كان يعقد فيها اجتماع مهم للقضاة لمناقشة قانون السلطة القضائية، وإطلاقهم للهتافات المسيئة للقضاء، ومنع أعضاء الاجتماع من الخروج ومحاولة الاعتداء عليهم، مما دفع بعض القضاة إلى إطلاق النار من مسدساتهم في الهواء لتفريقهم؟ لم يحدث في التاريخ المصري الحديث مثل هذه الصراعات الغوغائية بين جناحي العدالة، اللذين استقر العرف على تسميتهما بالقضاء الجالس إشارة للقضاء، والقضاء الواقف إشارة للمحاماة. ويزخر التاريخ المصري بنماذج مشرفة للمحامين الذين تولوا القضاء بعد ذلك، ونماذج رفيعة المستوى للقضاة الذين عملوا بالمحاماة بعد إحالتهم للمعاش. وأخيراً كيف نصف تعدي طلبة الجامعات على أساتذتهم بدعوى ضرورة إقالة القيادات القديمة التي تم تعيينها في النظام السابق وانتخاب قيادات جديدة. وهكذا نسفت نسفاً علاقات الاحترام التقليدية بين الطلبة وأساتذتهم، وشهدنا جموع الطلبة في إحدى الجامعات الإقليمية يحاصرون سيارة فيها عميدان لكليتين جامعيتين لمنعهما من الاشتراك في انتخابات المجمع الانتخابي لانتخاب رئيس جديد للجامعة! وهكذا من مطالعة هذه النماذج السيئة للسلوك الغوغائي الذي تمارسه بعض فئات الجماهير، والسلوك الهمجي الذي تمارسه بعض فئات النخبة سواء كانوا محامين أو أساتذة جامعيين للأسف الشديد، يمكننا أن نخلص إلى أن ظواهر الاختلال الاجتماعي التي تتمثل في الاعتداء الجسيم على سلم القيم المرعية في المجتمع المصري، تكاد تكون أخطر وأفدح من الانفلات الأمني! والسؤال: كيف سنواجه في المستقبل القريب هذا الوضع، وهل سنستطيع أن نعيد للقيم الراسخة في مجال العلم وفي مجال القضاء احترامها وممارسة السلوك في ضوء مثاليتها الرفيعة؟ لقد آن الأوان لكي تدرك كل فئات المجتمع أن هناك فرقاً كبيراً بين الثورة والفوضى!