تودع لندن هذا الأسبوع معرض "الجذور العربية"، فيما تستضيف أبوظبي الأسبوع المقبل معرض "ألف اختراع واختراع". والمعرضان توأمان بادر في إنشائهما علماء عرب مغتربون ساروا في الأرض فكانت لهم قلوب يعقلون بها. وقد عقلوا بقلوبهم جذور العلوم العربية المطمورة في خزائن الغرب، فانتشلوها من ركام الجهل والتحيز والتعمية، وأحيوا بها ألف عام مفقودة من تاريخ العلوم العالمية. هل يعيد الربيع العربي الحياة إلى هذه الجذور التي استنبتها عباقرة العلوم والرياضيات والطب والتكنولوجيا؛ مثل الكِندي وابن الهيثم والخوارزمي وابن سينا والبيروني والبتاني وابن حيان والرازي... ومئات العلماء والأطباء والمهندسين الذين يطلون علينا من نوافذ هذه المعارض ويقدمون العون. وإذا كان العلماء يطرحون أسئلة حول ما هو موجود، فالمهندسون يبتكرون أشياء لا وجود لها، وقد ابتكر المهندس العراقي سليم الحسني، أستاذ الهندسة الآلية في جامعة مانشستر في بريطانيا، موقعاً على الإنترنت اسمه "التراث الإسلامي"، سرعان ما تحول إلى "مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة" التي أصدرت الكتاب الموسوعي "ألف اختراع واختراع"، ومعرضه الجوال حول العالم، الذي انطلق العام الماضي من "متحف العلوم" في لندن إلى إسطنبول حيث افتتحه رئيس الوزراء التركي أردوجان، وإلى "مركز العلوم في كاليفورنيا" الذي خاطبتْه -عبر فيديو كونفرنس- وزيرة الخارجية الأميركية (هيلاري)، متحدثةً عن إنشاء أول جامعة في التاريخ أسستها الأميرة المغربية فاطمة الفهري عام 859 ميلادية في مدينة القيروان. واعترفت الوزيرة بأن المهندس العربي "بديع الزمان الجزري" ابتكر قبل أكثر من ألف عام عجلة التدوير (الكرنك) المستخدمة حتى اليوم في السيارات والقطارات والطائرات. وفي المعرض نموذج لساعة الفيل التي بناها الجزري، وهي تحفة هندسية وفنية تضبط الوقت بدقة كبيرة عن طريق ملء وتفريغ دلو كل نصف ساعة. والساعة التي يبلغ ارتفاعها نحو سبعة أمتار وعرضها حوالي مترين، نصب فني لفيل هندي يحمل أبا الهول المصري، والتنين الصيني، ويطل من الهودج شخص مهيب يُعتقد بأنه القائد العسكري العراقي صلاح الدين الأيوبي الذي حرر الأراضي العربية المقدسة من الصليبيين في القرن الثاني عشر الميلادي. وأجوبة كثيرة تبحث عن أسئلة لدى 15 ألف طالبة وطالب سيزورون معرض "ألف اختراع واختراع" الذي يستضيفه "المهرجان العالمي الأول للعلوم والتكنولوجيا" في أبوظبي. والمعرض نفسه نشأ في مخيلة الفتيان الباحثين عن أجوبة لدى أجدادهم الذين ابتكروا علوم وتقنية العمارة والهندسة والموسيقى والبستنة والملاحة والمواصلات والتخطيط والتجارة والملاحة البحرية والاستكشافات الجغرافية والفلكية. ولا تُرى لافتة "ممنوع اللمس" في المعرض الذي يرعاه "مجلس أبوظبي للتعليم"، وتعرض فيه أكثر من 150 فعالية علمية وورشة تفاعلية في علوم الروبوتات والطيران والفيزياء والأحياء. ويطل من شاشات المعرض رجال ونساء بملابس عربية زاهية يستوقفون الزوار ويحكون لهم عن 400 عالم ومهندس وطبيب وجغرافي، بينهم الخوارزمي مؤسس علوم الجبر والمثلثات التي لولاها لما ابتكر الكومبيوتر والإنترنت، و"فيس بوك" ومئات التقنيات الرقمية، بما في ذلك "يوتيوب" الذي شاهد بواسطته 12 مليون إنسان فيلماً أنتجته المؤسسة عنوانه "ألف اختراع واختراع"، ويقوم فيه النجم العالمي المشهور "بنغ كينغزلي" بدور المهندس الجزري. ولو كان الفيلم الذي دعمته مؤسسة "عبد اللطيف جميل" مدبلجاً بالعربية وغيرها من لغات العالم الإسلامي، لتجاوز عدد المشاهدات اليوم المائة مليون. ولا أحد يستطيع أن يغلق تاريخ وفلسفة العلوم العربية؛ إنها الربيع الدائم يهبّ في الوجوه ما أن تفتح نافذة عليه. وقد هبّ على المجتمع العلمي البريطاني عندما فتحت عالمة فيزياء الفلك "ريم تركماني" نافذة في مستودعات أقدم أكاديمية علوم مستمرة في الوجود. وإذا أمكن اختصار أداء عالم في كلمتين، فهذه العالمة السورية "المدهشة دائماً" استخرجت "الجذور العربية" المطمورة في "الجمعية الملكية" البريطانية التي تأسست عام 1660. ولن تنمحي من ذاكرة تاريخ العلوم صورة هذه العالمة الجميلة المحيا تلقي، وهي حامل في الشهر الثامن، محاضرة على علماء بريطانيا عن ثلاثة زملاء لهم عرب مجهولين. وفوجئ العلماء المخضرمون عندما عرضت ريم سجل أعضاء "الجمعية الملكية" في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفيه عبارة "الحمد لله وحده" بالعربية مذيلة بتواقيع محمد بن حدّو، ومحمد بن علي أبقالي من المغرب، وقاسم آغا من مملكة طرابلس (ليبيا). وثلاثتهم كانوا سفراء لبلديهم في لندن. وتدل لوحات زيتية فخمة تصورهم بملابس عربية بالغة الأناقة على استمرار النفوذ العلمي العربي حتى ما بعد عصر النهضة بقرون. وتعرض السجلات تفاصيل محاضرة ألقاها قاسم آغا حول اللقاح ضد مرض الجدري، وفيها أبدى دهشته من خشية الإنجليز من استخدام اللقاح، وطمأنهم أنه أمر معتاد في طرابلس، حدّ أن أباه قام بتلقيحه وأشقائه السبعة! ويضم دليل المعرض الذي أعدته ريم تركماني معلومات مثيرة عن تخصيص كراس للعربية في جامعتي أوكسفورد وكمبردج منذ مطلع القرن السابع عشر، وإلحاح ملوك بريطانيا وزعماء الكنيسة الإنجليزية على البعثات التجارية في جمع المخطوطات والكتب العلمية العربية، واشتغال علماء بارزين بالعربية، بينهم مؤسس علم الكيمياء روبرت بويل، وعالم الفلك إدموند هالي الذي يحمل اسمه مذنب "هالي" المشهور. وبقي "كتاب المناظر" لابن الهيثم قروناً طويلة مرجعاً أساسياً في علوم الفيزياء والتشريح منذ روجر بيكون في القرن الثالث عشر الميلادي، ولم يتم العثور حتى وقت قريب على حل مسألة رياضية طرحها ابن الهيثم الذي ولد وترعرع في البصرة وبغداد، ووضع -وهو سجين الحاكم بأمر الله في مصر- ما يعتبر أول مؤلَّف علمي حديث في التاريخ. والمسألة باختصار: "إذا أُعطيتَ مصدر ضوء ومرآة مقعرة فحدِّدْ في المرآة النقطة التي تعكس الضوء إلى عين الرائي". وبقيت المسألة خلال عشرة قرون الماضية كابوساً يلاحق علماء الرياضيات، حتى عَثَر على حلِّها عام 1997 بيتر نيومان أستاذ الرياضيات في جامعة أكسفورد. وإذا كان صحيحاً ما يذكره العالم البريطاني توماس هاكسلي أن "الهدف العظيم للحياة الفعل وليس المعرفة"، فلا فعل لأجيال الربيع العربي أفضل مما اقترحه ابن الهيثم في عبارة اقتبستها ريم تركماني من "كتاب المناظر" ووضعتها في دليل معرض "الجذور العربية" بحروف كبيرة: "وهكذا فواجب كل إنسان هو استقصاء كتابات العلماء، وإذا كانت معرفة الحقيقة هي هدفه، فعليه أن يجعل نفسه خصماً لكل ما يقرأه، ويستخدم عقله حتى لب وحواشي محتواها، ويهاجمها من كل جانب. وعليه أيضاً أن يشك بنفسه وهو يقوم بفحصه النقدي لذلك، كي يتجنب الوقوع في كل من الإجحاف أو التساهل". مستشار في العلوم والتكنولوجيا