ربما لا تكون الأشهر القليلة القادمة شبيهة بالأشهر السبعة الماضية إذا فشلت جهود جامعة الدول العربية التي تهدف إلى حل سلمى للأزمة المتفاقمة في سوريا. فقد بدأت الانتفاضة السورية المطالبة بالإصلاح سلميةً في منتصف مارس الماضي، واستمرت كذلك بعد تحولها للمطالبة بتغيير النظام ورحيل قيادته. وظلت حالات اللجوء إلى العنف هامشية ومعزولة حتى منتصف الشهر الماضي عندما بدأت تتوسع نسبياً نتيجة انشقاق بعض الضباط والجنود السوريين لرفضهم إطلاق النار على المدنيين واستخدامهم السلاح في بعض المناطق. لذلك تبدو سوريا، ومن يحاولون مساعدتها في تجاوز الأزمة، في سباق مع الزمن. فالأمل الذي حمله الاجتماع الأخير للمجلس الوزاري للجامعة العربية ليس كبيراً، فضلاً عن أن هذه هي الفرصة الأخيرة. ويتوقف الأمل بإمكان إجراء حوار جاد من أجل حل سلمي على استعداد الحكومة السورية لاتخاذ خطوات فورية تجعل الحل ممكناً؛ مثل وقف إطلاق النار على المتظاهرين، وسحب قوات الجيش من المدن، والإفراج عن المعتقلين. كما يرتبط هذا الأمل بإقناع المعارضة السورية بجدوى حوار بلا ضمانات. ويحدث ذلك بينما يزداد خطر الاتجاه إلى عسكرة الانتفاضة السورية على نحو قد يفتح الباب أمام حرب أهلية في البلاد. فقد أحدث انتصار الثوّار الليبيين على نظام القذافي بالقوة المسلحة تغييراً في مزاج بعض الناشطين السوريين رغم الاختلاف الذي لا يمكن إغفاله بين الظروف في البلدين. وظهر هذا التغيير في بعض النقاشات التي جرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام التالية لمقتل القذافي، إذ ازداد فيها التعبير عن اليأس من إمكان تحقيق التغيير السلمي، وتوسع الميل إلى تبرير العمل المسلح. وأصبح معتاداً أن يدعو ناشطون إلى إسقاط شعار سلمية الثورة للمطالبة بتسليح المحتجين للدفاع عن أنفسهم بالحد الأدنى. كذلك لا يمكن إغفال الأثر النفسي الخطير الذي ترتب على "روتينية" مشاهد قتل المتظاهرين وتشييعهم ومجالس العزاء يومياً. فقد أصبح الاستعداد للموت شائعاً في ظل شعارات من نوع "نريد أن نموت بكرامة". ويتوازى هذا التغيير المرتبط بنجاح المقاومة الليبية المسلحة في إطاحة نظام القذافي مع ازدياد نسبي في معدلات الانشقاق في الجيش السوري، وبدء بعض المنشقين في تنظيم أنفسهم، ليس فقط للدفاع عن المدنيين في المناطق التي يوجدون فيها، ولكن أيضاً لشن بعض الهجمات. ورغم أن الانشقاقات التي حدثت حتى الآن محدودة وتبدو في مجملها معزولة ولا تمثل بداية تمرد مسلح بالمعنى الدقيق، فليس مستبعداً أن تتوسع خلال الفترة المقبلة إذا ما فشل الحل السلمي. ورغم أن ما أُطلق عليه "الجيش السوري الحر" لا يبدو إرهاصاً لكيان يمثل تهديداً يُعتد به للنظام، فقد يشجع إعلانه المزيد من الضباط والجنود على الانشقاق إذا ازدادت الأزمة تفاقماً. وسواء كان لدى هذا الجيش 12 كتيبة، مثلما قال بعض المعبرين عنه، أو أقل من ذلك، فثمة شواهد على وجوده في بعض المناطق عبر هجمات شنها على دوريات للأمن وسيارات الجيش السوري ونقاط تفتيشه. وأصبح اسم "لواء خالد بن الوليد" في حمص معروفاً بعد عدة عمليات قام بها ضد قوات تابعة للجيش السوري، ومن خلال دور جنوده في حراسة الشوارع أثناء بعض التظاهرات ومهاجمة ميليشيات "الشبيحة". غير أن هذا الكيان العسكري لا يزال غامضاً إلى حد كبير من حيث العدد الحقيقي لأفراده ونوع الأسلحة التي يمتلكها، وما بقي منه بعد الضربات القاسية التي تعرضت لها حمص عشية إعلان دمشق قبول المبادرة العربية. لكن العمليات التي نفذها منشقون عن الجيش لا تزال أقل بكثير من أن تمثل بداية تمرد عسكري مؤثر، وإن لوحظ حدوث تطور ملموس في بعضها وخصوصاً العمليتين اللتين وقعتا يومي 25 و26 أكتوبر الماضي وأسفرت أولاهما عن مقتل سبعة من عناصر قافلة أمنية سورية بينهم ضباط على مشارف بلدة معرة النعمان، بينما أدت ثانيتهما إلى مقتل 11 عسكرياً خلال هجوم مسلح في بلدة حمر قرب حماة. ويعني ذلك عدم إمكان استبعاد احتمال توسع الانشقاقات تدريجياً في حالة فشل جهود الجامعة العربية، وغلق الباب تالياً أمام أي حل سلمي. كما يصعب إغفال احتمال لجوء بعض الناشطين المدنيين إلى التسلح للدفاع الذاتي. فإذا توسع نطاق الانشقاقات المحدودة حتى الآن وازداد الميل إلى حمل السلاح في الشارع، سيخيِّم شبح حرب أهلية بشكل ما في سماء سوريا. وقد لا يمكن تفادي هذا السيناريو الخطير والمؤلم، في غياب حل سلمي، إلا إذا لقيت الدعوة إلى التوسع في أسلوب الإضراب العام والسعي إلى عصيان مدني استجابة متزايدة في الأسابيع المقبلة. فقد اعتمدت الانتفاضة السورية على أسلوب التظاهر بالأساس، ونجح ناشطوها في ابتكار أدوات جديدة لتنظيم التظاهرات على مدى أكثر من سبعة أشهر في ظروف شديدة الصعوبة وفي مواجهة قوات أمن تتسم بقسوة شديدة وتستعين بأعداد كبيرة من "الشبيحة" الذين لا يترددون في إطلاق النار على المحتجين ويمارسون القتل بدم بارد. لكن الاعتماد على هذا الأسلوب دون غيره من أساليب الاحتجاج، أضعف قدرة الانتفاضة على التأثير وجعلها أشبه بعمل روتيني متكرر لا يحقق تراكماً سريعاً، خصوصاً مع بقاء مدينتي دمشق وحلب الرئيسيتين ساكنتين باستثناء بعض ضواحيهما الريفية. غير أن الانتفاضة بدأت تأخذ شكلاً جديداً بعد النجاح المعقول الذي حققه إضراب عام استقبل به الناشطون وفد الجامعة العربية الذي زار دمشق يوم 26 أكتوبر الماضي. فقد شل هذا الإضراب الحياة في مناطق متفاوتة ببعض المحافظات، وخاصة في حمص ودرعا وحماة، حيث أُغلقت المحال التجارية، وخلت الشوارع من المارة وفقاً لأكثر من فيديو تم تحميله عبر "يوتيوب" وصفحة "الثورة السورية 2011" على "الفيس بوك". وأدى ذلك إلى إثارة جدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول الارتقاء بالاحتجاجات السلمية لقطع الطريق على الاتجاه إلى عسكرة الانتفاضة، وذلك عبر توسيع نطاق الإضرابات العامة وبحث إمكانات جعلها أسبوعية، وتفعيل التعاون بين "تنسيقيات الثورة" والفعاليات الأخرى، سعياً إلى خطة تقود إلى تنظيم عصيان مدني شامل قدر الإمكان. وكانت لافتةً المفارقة المتضمنة فيما بدا أنه سباق بين النظام وناشطي المعارضة لاستقبال الوفد الوزاري العربي في 26 أكتوبر، كل بطريقته. ففي مقابل ذلك الإضراب العام، نظمت السلطات تظاهرة مؤيدة للأسد في ساحة الأمويين في دمشق. غير أن السباق الذي سيحدد مصير سوريا في الأسابيع القليلة القادمة قد يكون بين الحل السلمي الذي تبحث عنه الجامعة العربية، والعصيان المدني الذي يسعى إليه ناشطو الانتفاضة المتمسكون بسلميتها، والمواجهات المسلحة التي قد تضع هذا البلد العزيز لدى كل عربي على أعتاب حرب أهلية ربما يتجاوز خطرها حدوده.