اختارت صحيفة "الاتحاد" أن يكون موضوع منتداها السنوي السادس "العالم العربي إلى أين؟"، عبر ست أوراق عمل وستة تعقيبات والعديد من المداخلات التي اتسمت بكثير من الحرية والحيوية من قبل 45 كاتباً ومفكراً عربياً ساهموا في تناول مختلف جوانب الحراك العربي الراهن وقدموا رؤية عميقة لما يجري في الساحة العربية من أحداث تكاد تغير وجه المنطقة وتهز ركائزها، كان من أولى الأوراق المقدمة "هل ما يجري في بلاد الربيع العربي من حركة جماهيرية أدت إلى سقوط الأنظمة السياسية السابقة... ثورة أو حركة احتجاج سياسي أو اجتماعي؟". وهناك المتحمسون الذين رأوا فيما يحصل ثورة باعتبار أنه لا يوجد نموذج معين للثورة، يمكن أن نقيس عليه ثورات الربيع العربي، لذلك يرى الدكتور عمار علي حسن في ورقته حول توصيف الثورات، أن تقييم الثورات العربية الآن عمل فيه قدر كبير من التجني والتسرع. وفي المقابل يرى الدكتور علي الطراح أن الثورة تعني تغيرات عميقة وجذرية مصحوبة بقيم إنسانية واضحة يستفيد منها الجميع، مثل الثورة الفرنسية التي كانت تحمل قيماً عالمية، وتزامنت مع التطور العلمي، وكذلك الثورة الثقافية التي أحدثها فلاسفة الأنوار، وسبقتها إصلاحات دينية مؤثرة وعميقة. وفي حالة عالمنا العربي الذي تحكمه العصبيات والولاءات، لا يمكننا أن نطلق على كل حركة اجتماعية أو سياسية ثورة. إذن تبقى مجرد حركة، مرتبطة بما تحققه من نتائج. فمثلاً في الحالة المصرية التي أطاحت بحاكم فردي مستبد، لكنها لم تقدم سلطة جديدة نقطع الصلة بما قبلها، فما زال الجيش يمسك بالسلطة. وفي حالة اليمن حيث تسيطر القبلية والعصبية، لا يمكن أن نطلق عليها ثورة، إنها مجرد حراك سياسي يسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية واجتماعية. وفي ليبيا ربما يكون الثأر أقرب إلى ما يحدث منه إلى الثورة، ففي مجتمع قبلي عمل القذافي على تهميشه لمدة تزيد على 40 سنة، لم يكن مفهوم الثورة واضحاً في مخيلة وعقول الثوار، وعندما ينتهون من حكم القذافي ستبرز الخلافات المخفية إلى العلن. فالثورة تعني القطيعة الشاملة مع كل ما سبق، وما يحصل في بلاد الربيع العربي يمكن أن نطلق عليه حراكاً سياسياً أو حركات اجتماعية أو سياسية. وإذا انتقلنا إلى تداعيات هذا الحراك على بلدان الخليج العربي، فإن ورقة الدكتور شملان العيسى طرحت سؤالاً: هل دول الخليج في مأمن من الاضطرابات؟ وفي إجابته، رأى أن النموذج الخليجي الذي ينعم بفائض الربح المتحصل من عائدات النفط والغاز، استطاع أن يرتفع بمستويات معيشة شعوبه، وهو في ذلك يختلف عن بلدان الربيع العربي، لكن الاضطرابات لا تتعلق فقط بالبطالة والأوضاع الاقتصادية الخانقة، بل أيضاً بالكرامة والحرية. لذلك نجد في الساحة الخليجية مطالبات شعبية بالإصلاح السياسي والشفافية. ويحذر الدكتور شملان من قضية الأقليات وكيفية التعامل معها، ويشير إلى تفاقم أوضاع بعضها وإلى تزايد وتيرة الطرح الطائفي خلال السنوات الأخيرة. ومع ذلك يقول: لم نجد أية مؤشرات تدل على تهديد هذه الثورات لدول الخليج، فلا أحد دعا إلى الإطاحة بالأنظمة القائمة، ولا أحد دعا هذه الدول لتحقيق الوحدة العربية. بقي تساؤل مهم طُرح في الندوة، ويتعلق بمستقبل الديمقراطية في العالم العربي، وهل ستتمكن قوى التغيير التي نجحت في الإطاحة بأنظمتها السياسية في تحقيق ديمقراطية حقيقية في مجتمعاتها، لعبور فجوة التخلف والأوضاع المتردية إلى عالم الازدهار والحرية والكرامة؟! يقول عالم الاجتماع المصري السيد يسن: المعضلة الديمقراطية العربية لن تحل إلا إذا استطاع العرب مجابهة المشكلات المعيقة لتطبيق معايير الحداثة مرة واحدة، فلا حداثة سياسية ولا ديمقراطية بغير تحكيم العقل، ولا تحول ديمقراطي بغير الانتقال من دوائر القيم التقليدية المغلقة إلى دوائر القيم العصرية المنفتحة، أو بعبارة موجزة لا ديمقراطية ما دام الفقيه المفتي مرجعاً للمجتمع في شؤونه العامة، ولا حداثة ما دامت المفاهيم الدينية والقومية المشوّهة حاكمة لعقول ونفسيات الجماهير والنخب. بينما رأى الدكتور الطراح أن هناك ما يثير القلق على مستقبل الثورة في تونس ومصر، حيث سبق أن شهدنا ثورات وانقلابات، لكنها لم تغير من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي شيئاً. فقد ذهب استبداد وجاء آخر. كما أشار الكاتب لبعض المجتمعات العربية التي تعيش الديمقراطية، وإن لم تكن كاملة، وذلك بقوله: لو أخذنا لبنان والكويت، سنجد أن الديمقراطية تواجه انتكاسات خطيرة، لاسيما أنها عززت الانقسامات الاجتماعية مثل الطائفية والقبلية. وكذلك العراق الذي كانت الديمقراطية فيه مستحيلة في ظل صدام الذي ذهب بقوة الآخر، لكن المجتمع دخل في حالة تطاحن، والأحزاب المذهبية والعرقية كلها تستخدم الديمقراطية لتحقيق أهداف غير ديمقراطية. ووصف الدكتور شملان ما جرى في البحرين بأنه حراك ذو منحى طائفي. أما الدكتور وحيد عبدالمجيد فاستهل ورقته بالقول: ليس هناك إلى الآن ما يبعث على الاطمئنان بشأن مستقبل بلاد الربيع العربي، ولا توجد ثقة كافية حتى الآن في أن قوى التغيير ستنجح في بناء نظم سياسية حرة عادلة ومستقرة تحقق الأهداف التي من أجلها نزل الناس إلى الشارع وعبرت عنها الشعارات الثورية، إضافة إلى مخاوف كبيرة تتزايد يوماً بعد آخر من أن تتمكن "القوى غير المؤمنة بالديمقراطية" من اختطاف الربيع العربي في ظل حالة الانفلات وعدم الأمان والاستقرار. فقد ثبت عبر التاريخ أن الحرية لا تمثل أولوية بالنسبة للإنسان عندما يكون مهدداً في أمنه ورزقه. ورأى الدكتور عبدالحق عزوزي في ورقته، "عقلنة التغيير بدل التثوير والتهييج"، أن فرض التحول السريع إلى الديمقراطية مسألة في غاية الصعوبة، ولا يعني مجرد إحداث ثورة شعبية أو تدخل دبابات أجنبية أن الديمقراطية ستثبت أركانها، لكنه يستدرك قائلاً: ما زالت التجربة في بلاد الربيع العربي في مهدها ولا يمكن الحكم أو الجزم بنجاحها على المدى المتوسط أو القريب. وهو يرى أن التغيير الهادئ عبر التوافق التعاقدي كفيل بتحقيق ثورة ديمقراطية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى والمجهول وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكاً وأكثر مكراً. وبطبيعة الحال هناك المتحمسون المراهنون على نجاح حركات الربيع العربي في تحقيق الديمقراطية رغم كل المعوقات والإحباطات. وقد عبّر عن هذا الاتجاه أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق الدكتور طيب تيزيني الذي تباهى بالربيع العربي كونه أثبت خطأ الاستشراق الاستعماري في اتهام العرب بالعجز على إنجاز شيء. وقال تيزيني: ما يحدث الآن رد على الاستشراق الاستعماري إذ أثبت هذا الحراك قدرة المنطقة على التحول التاريخي! وليسمح لي أستاذنا الفاضل بالقول إن الغرب لا يتحدانا في أهليتنا على الهدم والتدمير، فما أكثر حركات الفوضى والتدمير والصراعات الدموية في تاريخنا. الغرب يتحدانا في قدرتنا على البناء والإنجاز والاكتشاف والاختراع لما ينفعنا وينفع الإنسانية. هذا هو التحدي الحقيقي للذات قبل الآخر، فلا داعي لخداع الذات، ونحن لا نريد أن نتسرع ونظلم الربيع العربي كما لا نريد تحميله فوق طاقته. الاستبداد إرث ثقيل وجذوره راسخة في الأرض العربية، وليس مقصوراً على السلطة السياسية، بل إن البنية المجتمعية العربية بيئة مستبدة سواء على مستوى الأسرة أو المنبر التعليمي أو الديني، والثقافة المجتمعية تغلب عليها نزعة الاستبداد، وقديماً قال شاعر العربية الأكبر: إنما العاجز من لا يستبد، وزعماء التيارات القومية والإسلامية، وبالمثل غالبية المثقفين بمن فيهم كبار المنادين بالديمقراطية حالياً، لم يتورعوا عن تمجيد طغاة العرب والتزلف إليهم بهدف الكسب والاستحواذ على المغانم، لذلك ليس مطلوباً من حركات الربيع العربي أكثر من أن تحجم الاستبداد لا غير، أما الديمقراطية فستظل حلماً بعيد المنال أو شعاراً خالداً مثل بقية شعاراتنا المعلنة! د. عبدالحميد الأنصاري كاتب قطري