لم يواجه الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، تحدياً كالذي يواجهه في الوقت الحاضر؛ المتدينون منحسرون، ورجال الفلسفة يضحكون، وأهل المختبرات العلمية إذا مروا بهم يتغامزون. نشأت آلهة شتى من العلم والفلسفة في الوقت الذي انزوى الدين في جحر الأيديولوجية. لم يعان العالم منذ زمن الأنبياء حتى اليوم ما يعانيه من الجفاف الروحي وعبادة آمون العجل الذهبي. إنها قصة جحا، قيمة الإنسان من ذهبه، فمن ملأ جحره بالذهب رفع علماً يناسب المقدار وقد يكذب! وفي الوقت الذي يتحول الدين إلى علم، يصبح عالمياً، فلا يختلف الناس حولهما، كما في حبة الأسبيرين وأشعة روتنجن وجراحات الكولون وخياطة الجروح بالبرولين. هل يختلف جراح صيني عن صربي في فتح البطن الجراحي؟ وهل يتوانى الطبيب الألماني عن السعودي في استخدام الرنين المغناطيسي والتصوير الطبقي المحوري؟ مهمة الفكر الآن محاولة صياغة معادلة تشبه معادلة آينشتاين بين الطاقة والمادة، إنهما وجهان لحقيقة واحدة، أو أن المادة طاقة مكثفة، أو أن إحداهما تقود تلقائياً للأخرى. كذلك ينبغي تحويل الدين إلى علم والعلم إلى دين. وطبيعة المهمة كما نرى أن نجعل من باحث الذرة شخصاً يسجد لرب العالمين بخشوع، ومكتشف الكود الوراثي في نواة الخلية بثلاثة مليارات من الأحماض النووية، يُسبح العظيم الغفار. هدف الأديان واحد، ألا وهو الاهتداء إلى المطلق ومعنى الكون والوجود ونظامه، ولعلها خطوط تماس حول دائرة واحدة مليئة بالألغاز والقدسية والمعنى. وبذا يتوقف الصراع عند هذه الحافة، ونردد مع القرآن "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". إن الدين يحرر الإنسان من أعظم شعورين ساحقين بالتوقف في الزمن وتعطل الحركة: الحزن شد للماضي، والخوف توقف عن اقتحام المستقبل... وبالتحرر من هذين الشعورين تتحرر النفس بطلاقة وتسبح عبر الزمن الممتد بدون سلاسل. هذا ما قالته الآية الكريمة وكرره الإنجيل، إنه "ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"، ويكررها المسيح: إن نيري خفيف. إن الدين بوصلة أخلاقية لا يمكن العيش بدونها، والمؤسسة الدينية ماكينة اخترعها رجال الدين بأسماء شتى لتأييد الطغيان، وهو ما جمعته الآية القرآنية في لعن الجبت والطاغوت: الطاغوت هو الطاغية وعسكره، والجبت هو رجل الدين الذي ميز نفسه بمظهر يضفي القداسة عليه. أما المستبدون فيرسلون الجنود إلى المقابر ويملؤون الجيوب بالأموال. وحين حطم المسيح عليه السلام موائد الصيارفة وأعشاش بيت الحمام في معبد القدس، صرخ فيهم: الويل لكم، حولتم معبد الله إلى ماخور! أيها القادة العميان إنكم كالقبور؛ من خارج مطلية بالبياض ومن الداخل تملؤها العظام النخرة. كذلك حال كثير من المؤسسات الدينية في عالم اليوم. أمراضُ كثيرٍ من أهل الكتاب واحدة، ولم يكن لله أولاد، بل يؤاخذ الجميع بذنوبهم وأخطائهم واقترافاتهم، و"كان ذلك في الكتاب مسطورا".