من وسط التشابك بين خيوط المصالح والمواقف والاتجاهات في ليبيا، وقد خرجت للتو من ضيق الماضي متنسمة هواء المستقبل، ظهر للعلن اسم أول رئيس وزراء ليبي في مرحلة ما بعد القذافي. اسم جديد على وسائل الإعلام، وربما لم يعرفه أكثر الليبيين. لكن رئيس الوزراء المنتخب عبد الرحيم الكيب، الأكاديمي والأستاذ الجامعي البارز، هو عضو في المجلس الوطني الانتقالي، وأحد الذين انضموا لثورة 17 فبراير ودعموها مبكراً، وقد فاجأ كثيرين بفوزه على أسماء معروفة في المجلس، مثل علي الترهوني وعبدالحفيظ غوقة... فمن هو الكيب؟ وهل يملك من الخبرة ما يذلل أمامه صعاب الطريق، للعبور بليبيا من آثار مرحلة القذافي؟ لقد تنافس يوم الاثنين الماضي، وعبر آلية الاقتراع السري، تسعة من أعضاء المجلس الانتقالي على رئاسة الحكومة الجديدة، ليس بينهم محمود جبريل رئيس المجلس التنفيذي الحالي. وقد منح المجلس عشرين دقيقة لكل مرشح كي يقدم تصوره حول مهام الحكومة الانتقالية، ثم انحصر الخيار بين شخصين هما مصطفى الرجباني وعبد الرحيم الكيب الذي نال 26 من أصل 51 صوتاً، ليفوز برئاسة الحكومة المؤقتة. وبمقتضى الوثائق المؤسسة للمجلس الانتقالي، فإنه ينبغي تشكيل الحكومة خلال شهر من إعلان تحرير ليبيا، وهو الإعلان الذي صدر بالفعل يوم 23 أكتوبر المنصرم. كما تحدد الوثائق فترة زمنية لولاية الحكومة مدتها ثمانية أشهر، يجري خلالها الإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي. وما هذا إلا عنوان أولي عريض للمهام المنوطة برجل ليبيا الجديد ورئيس حكومتها الأولى بعد مقتل القذافي وسقوط نظامه. والكيب هو أحد ممثلي مدينة طرابلس في المجلس الوطني الانتقالي؛ وقد ولد لإحدى عائلاتها المعروفة عام 1955، وتخرج من جامعتها بشهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية عام 1973، أي بعد أربعة أعوام على انقلاب "الفاتح" الذي أسقط الملكية ووضع القذافي في سدة السلطة طيلة 42 عاماً، اضطر خلالها كثير من الليبيين للهجرة والعيش في الخارج، ومنهم الكيب الذي أقام في الولايات المتحدة، حيث حصل على شهادة الماجستير من جامعة كاليفورنيا عام 1976، ثم شهادة الدكتوراه من جامعة "كارولينا الشمالية" عام 1984، ليصبح أستاذاً للهندسة الكهربائية في جامعة ألاباما، ثم في جامعة "كارولينا الجنوبية" عام 1996، قبل أن يلتحق بالجامعة الأميركية في الشارقة عام 1999 حيث ترأس قسم هندسة الكهرباء والإلكترونيات والكومبيوتر، وساهم في برامج لتطوير الشهادات الجامعية ونيل الاعتماد الأكاديمي. وفي عام 2007 أصبح منسق الدراسات العلمية العليا بالجامعة، قبل أن ينضم في عام 2009 إلى معهد أبوظبي للبترول، حيث ترأس قسم الهندسة الكهربائية، وأشرف على بعض المقررات الدراسية وبرامج التدريب. وكان الكيب أحد الأكاديميين الليبيين المهاجرين الذين عادوا إلى بلادهم بعد عام 2002 في إطار ما بدا حينها كسياسة انفتاح ومصالحة يقودها سيف الإسلام القذافي لبناء "ليبيا الغد"، فدرّس في جامعة طرابلس، وأنشأ هناك (عام2005) مشروعاً خاصاً سماه "الشركة العالمية للطاقة والتكنولوجيا"، وكانت تلك إحدى خطواته الناجحة في عالم الأعمال. لكن الكيب يبقى أكاديمياً وباحثاً في المقام الأول، وقد نُشرت أبحاثه في مجال هندسة الطاقة الكهربائية تحت رعاية "المؤسسة العلمية الوطنية" الأميركية، و"معهد أبحاث الطاقة" الأميركي، ووزارة الطاقة الأميركية، و"خدمات الشركة الجنوبية" بألاباما، و"شركة طاقة ألاباما"... كما طبقت بعض الشركات الأميركية نتائج بحوثه حول "التوزيع محدود الانبعاث وتعويض الطاقة التفاعلية". هذا إضافة إلى عمله كمستشار لدى عدة مؤسسات صناعية؛ مثل "شركة ألاباما للطاقة" و"شركة خدمات الجنوب"، وعضويته في مجلس إدارة "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا" (الشارقة)، ولجنة العلوم والتكنولوجيا بـ"البنك الإسلامي للتنمية" (جدة). وعلى أهمية الكهرباء وبحوثها التطبيقية، فإنها ليست كل ما تحتاجه ليبيا "النائمة" فوق واحد من أكبر احتياطيات النفط والغاز الطبيعي في العالم وأكثرها جودة، بل ربما تتمثل أولوياتها الملحة حالياً في فرض الأمن والاستقرار، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبناء المؤسسات الحديثة... ولعل ذلك مما يعيه الكيب الذي تعهد، عقب فوزه بالمنصب، بالسعي لبناء دولة ليبية جديدة تحترم حقوق الإنسان، وبنزع السلاح وتفكيك المليشيات المسلحة في "كنف الاحترام"، وبالاستماع إلى جميع الليبيين، وإنعاش الاقتصاد، والتكفل بالجرحى وذوي الشهداء والمفقودين. بيد أنه للوفاء بتلك الوعود والتعهدات، يتعين على الكيب أن يشكل حكومته أولاً، وذلك خلال أسبوعين على انتخابه، كما تنص وثائق المجلس الانتقالي. لكنها ليست مهمة يسيرة في البيئة الليبية الحالية، بما يطبعها من صعود للعصبيات السياسية والدينية والجهوية والقبلية... ووسط ساحةٍ اجتهد القذافي طوال أربعة عقودٍ على نزع وتجريف السياسة منها وإفراغها من كل القوى السياسية. وفيما يبدو أنه مناورة من الكيب للتعامل مع تناقضات الساحة الليبية الجديدة، بما فيها من قوى متنافرة، أعلن أن حكومته ستتشكل من التكنوقراط وأصحاب الكفاءات فحسب، وأن اختيار الوزراء لن يتم على أساس آخر غير الأهلية المهنية والنزاهة الخلقية. ومع أنه تستحيل إقامة حكومة في ليبيا خارج إطار نوع من المحاصصة الجهوية، إلا أن المعضلة الكبرى تكمن في ما بعد إعلان قيام الحكومة، فهناك مجموعات من الثوار، وبعض المدن أيضاً، لازالت ترفض إلقاء السلاح والرضوخ للمجلس الانتقالي وحكومته، كما توجد فصائل مسلحة تتصرف بلا ضابط وخارج النظام والقانون. لقد ألحقت الحرب دماراً كبيراً باقتصاد ليبيا وببنيتها التحتية، مما يستحيل على حكومة مؤقتة إعادة بنائه خلال ثمانية أشهر. لكن محاولة إيجاد علاج لهذا الوضع، قد تصرف انتباه الحكومة عن الأولويات الأمنية الملحة. وما لم يتحقق الاستقرار الأمني، ومعه حد أدنى من الانتعاش الاقتصادي، فلن تستطيع الحكومة إيجاد التوافق الوطني اللازم لتنظيم انتخابات تؤسس لمستقبل البلاد. بيد أن ذلك التوافق يمكن أن يتحقق بوجود دعم دولي وعربي لإسناد عمليات التنظيم وحفظ السلام واستئناف الإنتاج النفطي... لاسيما أن الكثير من ألوان الطيف الليبي رحبت بانتخاب الكيب على رأس الحكومة، وأثنى البعض على تجاربهم معه خلال فترة المعارضة في المهجر. لكن تبقى قيادة العمل الحكومي في مرحلة الخروج من "حرب التغيير"، مختلفة جداً عن العمل الأكاديمي، وحتى عن العمل المعارض في المهجر. محمد ولد المنى