علق أحد الكتاب الليبراليين التونسيين على انتصار حركة "النهضة" في الانتخابات الأخيرة قائلاً :"ماذا نقول في ديمقراطية تقصي الديمقراطيين وتقود أعداء الديمقراطية إلى السلطة بأصوات الناس؟". ليس الإشكال بالجديد، فلقد شكل سابقاً الدافع الرئيسي لحلف النخب الليبرالية مع الأنظمة القمعية الاستبدادية، مما يفسر هزيمتها القاصمة في الاستحقاقات الانتخابية الحرة. وبغض النظر عن الإشكالية النظرية المتعلقة بصلة الأفكار الليبرالية بآلية التنظيم الانتخابي، فإنه من الواضح أن الخطاب الليبرالي يميل في الغالب إلى اختزال النسق الليبرالي في صياغات ومضامين إيديولوجية ضيقة تتراوح بين المقاربة العلمانية (رفض أي حضور للدين في الشأن العام) والمقاربة التاريخانية التنويرية (القطيعة مع الماضي والرهان على حركة التقدم). ولا شك أن المقاربتين حاضرتان بقوة في الأدبيات الليبرالية وإن كانتا تنتميان لسجل نظري أوسع من المنظور الليبرالي، فثمة علمانيات ومقاربات تنويرية غير ليبرالية. ما نريد أن نبينه هو أن الفكر الليبرالي- في ما وراء حركيته التاريخية ينقسم إلى اتجاهات ثلاثة متمايزة هي: الاتجاه الليبراتريانيlibertarianism الذي يشكل امتداداً لليبرالية الكلاسيكية المؤسسة على أولوية ومحورية الحرية الفردية بمفهومها الاقتصادي القانوني، واعتبارها الأساس الشرعي للنظام الاجتماعي والسياسي. وأهم ممثلي هذا الاتجاه في القرن العشرين "المدرسة الاقتصادية النمساوية"، التي ارتبطت بالمفكر النمساوي المعروف "فردريش هايك"، ومن أبرز أعلام هذا التيار اليوم الفيلسوف الأميركي "روبير نوزيك"، الذي لقيت كتاباته صدى واسعاً في الحقل السياسي. - الاتجاه الليبرالي الاجتماعي الذي يستقصي الشروط الاجتماعية الملائمة للحرية الفردية من منظور تصور إجماعي للعدالة. واهم ممثلي هذا الاتجاه هما الفيلسوفان الأميركيان "جون راولز" (في نظريته حول العدالة التوزيعية القائمة على مبدئي الحرية والاختلاف) و"رونالد دوركين" (في إعادته الاعتبار للمبادئ القيمية الموجهة لخيار الفرد الحر المسؤول). - الاتجاه المحافظ الذي يرفض التصور الذري للفردية، أي النظر للذات الفردية خارج التقليد الثقافي والقيمي والاجتماعي الذي تنتمي اليه بصفة جوهرية. من هذا المنظور الذي تعود جذوره للفيلسوف الايرلندي "أدموند برك" الذي عاصر الثورة الفرنسية وكتب ملاحظات نقدية عليها لا سبيل لممارسة الحرية الفردية إلا في نسق تعددي تقوم فيه بمنأى عن تحكم الدولة سلط اجتماعية وانساق قيمية ومؤسسات حامية للفرد (العائلة ،المؤسسة الدينية، المدرسة...). ومن الجلي أن هذه الاتجاهات المتمايزة تقوم على مبدأ عام مشترك هو تأكيد سيادة الفرد وحريته في اختيار قناعاته الذاتية الجوهرية وتحديد القيم المدنية المنظمة للشأن العمومي المشترك ضمن إطار قانوني يكفل له ممارسة حقوقه الطبيعية. إلا أن هذا الاتفاق في المبدأ العام، لا يلغي الاختلاف الواسع في الصياغات النظرية والإيديولوجية، مما برز منذ بدايات عصور الحداثة السياسية، عبر خطوط تصدع عديدة من بينها: - الليبرالية الأحادية التي تعتبر الحرية الفردية غاية في ذاتها والليبرالية التعددية التي ترى هذه الحرية شرطاً لتحقيق غايات أخرى تتعلق بتنمية وتحسين الوضع الإنساني. -ليبرالية الحرية (كما صاغها لوك في القرن السابع عشر) وليبرالية السعادة كما بلورتها النزعة النفعية، التي قامت عليها التصورات الرأسمالية وإيديولوجيتها الاستهلاكية. - الليبرالية الإجرائية التي ترفض أي تصور مسبق للخير الجماعي والليبرالية المعيارية التي تعتبر أن هذا التصور لا غنى عنه ولا سبيل للانفكاك منه، وهو من مقومات التقليد الثقافي المشترك. - الليبرالية المنهجية التي تنظر للنسق الاجتماعي كمنتوج ميكانيكي مصطنع لحفظ حرية حقوق الإنسان الطبيعية (هوبز) والليبرالية الأخلاقية التي تركز على القوانين بصفتها تجسيداً للإرادة العقلانية المشتركة والتعبير عن المجال العمومي (روسو وكانط). إن الخطاب الليبرالي العربي في نظرته التبسيطية تجاه التقليد الليبرالي الغربي لا يرى في هذه الديناميكية الثرية سوى تعيناتها الإيديولوجية الظرفية، ولا يستسيغ وجود ليبرالية محافظة على الطريقة الإسلامية، مثل الأحزاب الليبرالية المسيحية المحافظة الحاكمة اليوم في العديد من البلدان الديمقراطية العريقة كالحزب المحافظ الكندي والحزب المحافظ البريطاني. الليبرالية المحافظة تختلف جذرياً عن "اليمين" المتطرف في تبنيها للقيم الإنسانية الحداثية وعن "المحافظين الجدد"(النموذج الأميركي) الذين هم نمط من التيار الثوري الراديكالي الرافض لمبدأ التعددية القيمية. ما نشهده راهنا هو انقسام التيارات الإسلامية إلى ثلاثة تيارات لا ينبغي الخلط بينها: تيار أصولي متشدد رافض لمكاسب التنوير والحداثة من منطلق الهوية والخصوصية (على غرار الأصولية الكاثوليكية والإحيائية البروتستانتية)، وتيار يساري بمرجعية إسلامية (على غرار مجموعات لاهوت الثورة في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية)، وتيار ليبرالي محافظ هو وحده القابل لمقاييس وقواعد الديمقراطية التعددية:أي فكرة الفرد الحر المسؤول عن خياراته في الشأن العمومي. ليس الإشكال إذن في الاستناد لمرجعية دينية في تحديد المقومات الثقافية والقيمية للهوية الجماعية، كما هو شأن العديد من الديمقراطيات الغربية التي تعترف دستورياً بديانة رسمية للدولة كبريطانيا والدنمارك وايسلندا واليونان والأرجنتين....فالمهم أن لا تصطدم المرجعية الدينية بالمدونة العامة لحقوق الإنسان وبنظام الحريات الجوهرية الذي هو الأساس المشترك للتقليد الليبرالي. ولا شك أن بعض الحركات الإسلامية لا تزال عاجزة عن دفع الاستحقاقات النظرية والاجتهادية للمرور من النمط الأصولي إلى النمط الليبرالي التعددي الذي نجحت فيه الإسلامية التركية. وما تبينه التجربة الغربية، هو أن لكل التشكيلات الفكرية والإيديولوجية حق التنظيم والتعبير في المجتمعات الديمقراطية بما فيها التيارات المعادية لليبرالية ما ابتعدت عن العنف واحترمت قوانين التعددية. وما نلمسه اليوم في مصر من قيام أحزاب سلفية مؤشر ايجابي، حتى ولو كانت هذه التنظيمات متطرفة في فكرها وغير قادرة على التكيف مع قيم الحداثة السياسية وإن قبلت شكلياتها الإجرائية. لم تعد أي حركة قادرة على احتكار اللون الإسلامي، ومن شأن هذه التعددية أن تفتح آفاقاً جديدة لنمط الليبرالية المحافظة ضمن المرجعية الإسلامية.