أمضيت أياماً قليلة في الأسبوع الماضي في عاصمة النظام العالمي السياسية واشنطن، وقبلها بيومين في عاصمة العالم المالية والاقتصادية نيويورك، وذلك للمشاركة كمتحدث في مؤتمر عن تأثير وأبعاد التغيير في العالم العربي وأثره على دول مجلس التعاون الخليجي، ولذلك مقال آخر. والعاصمتان تمثلان رمزي القوة الناعمة- المالية والاقتصادية والثقافية، وكذلك القوة الصلبة العسكرية، بمختلف أبعادهما. وما بين العاصمتين السياسية والمالية الاقتصادية، زرت أيضاً مدناً محاذية لمدينة نيويورك في ولاية نيوجيرسي، ومدناً في ضواحي العاصمة واشنطن في ولايتي فيرجينيا ومريلاند. وخلال تلك الزيارة تحصلت لدي ملاحظات وانطباعات أشارككم بها في هذه المساحة. وعلى كل حال تبقى الولايات المتحدة الأميركية رمزاً للدولة المنفتحة على رغم مرور عقد كامل على تفجيرات واعتداءات 11 سبتمبر 2001، وما ترتب عليها من صعوبة وتقعيد الحصول على تأشيرة الدخول للولايات المتحدة لكثيرين! ومع هذا فإن أميركا تبقى الدولة الثانية في العالم في جذب السائحين والزوار من مختلف دول العالم وهي تأتي في ذلك خلف فرنسا. ولذا فإن 60 مليون زائر وسائح زاروا أميركا العام الماضي وأنفقوا أكثر من 48 بليون دولار. وعلى رغم كون أميركا من الدول القلائل التي ضربها زلزال إرهابي - 11 سبتمبر- إلا أن طبيعة الأميركيين تبقى منفتحة وبعيدة عن تعقيدات الدولة البوليسية المنغلقة. صحيح أن أميركا مرت بمرحلة انكماش وتحولت إلى دولة عانت من عقدة 11 سبتمبر لسنوات طويلة وخالفت دستورها، وقايضت لمرحلة مؤرقة التشدد والانغلاق على حساب الانفتاح والحريات، إلا أنها من واقع ملاحظاتي كشاهد عيان في زياراتي العديدة، لم تعد أسيرة لعقدة 11 سبتمبر. وقد استعادت أميركا الآن دورها الريادي كوجهة للتعليم العالي، كما أنها لا تزال الدولة الأولى الجاذبة للطلبة الأجانب بسبب عراقة جامعاتها. فمن أصل حوالي 3,5 مليون طالب أجنبي يدرسون في جامعات خارج دولهم تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الأولى باستقطابها لعدد يصل إلى 700 ألف طالب أجنبي، وبزيادة مطردة من الصين والدول العربية خاصة، وينفق هؤلاء الطلاب 20 بليون دولار سنويّاً. لم يعد ثمة ذلك التشدد الذي كان السمة الغالبة في مطارات أميركا عند الدخول والأسئلة العديدة، والنظرة إلى من يحمل اسماً وسحنة عربية ومسلمة وكأنه يثير الهواجس والمخاوف لدى موظفي الهجرة والجوازات، بل هناك أسئلة عابرة وتمر وتأخذ حقيبتك وتمضي لتدلف مع الأميركيين من قاعة المطار الدولي إلى قاعة مطار الرحلات الداخلية. وتأخذ قطاراً تحت الأرض لينقلك من المطار الدولي إلى مطار الرحلات الداخلية. في صباح يوم بارد من أكتوبر الكل لاهٍ ويركض كعادة الأميركيين للحاق بطائرته في المطار أو بقطاره أو بالمترو في محطات القطارات والمتروهات. والجميع في حالة ركض وتسابق للحاق بوجهاتهم. والكب في حالة انتظار لوصول وسيلة تنقلهم، وهنا في هذه البلاد تفعيل مهم لمفهوم النقل الجماعي الذي لم تتطور ثقافته بشكل عملي في مدننا الخليجية بعد! وقد تحدثت لأميركيين عاديين في المطارات وفي محطات المترو وكذلك مع أكاديميين أميركيين وعرب أميركيين في تنقلي وسفري، وعلى هامش المؤتمر في واشنطن. ويبدو أوباما من وجهة نظر معظمهم في وضع صعب. وكنت قد قرأت قبل سفري إلى أميركا عن إحصائية محبطة بشأن نسبة البطالة والأرقام الفلكية للدين العام وعجز الموازنة وشعور ثلاثة أرباع الأميركيين بأن بلادهم تسير بالاتجاه الخاطئ، وبأنها أقرب للإفلاس منها للرخاء. وأردت أن أتأكد من ذلك بنفسي. وبالفعل ما أن توجهت بأسئلتي عن ذلك كله إلى أميركيين عاديين عاملين، أو عاطلين عن العمل، أو مثقفين وأكاديميين، حتى أيقنت من صحة ما قرأت. وبالفعل تطغى الحالة الاقتصادية والوضع المالي والبطالة كهم وهاجس يؤرق بال الأميركيين بشكل كبير. ولم يعد الهاجس الأمني والمخاوف من قيام "القاعدة" أو أي منظمة أو فصيل إرهابي بعملية اعتداء داخل أميركا، بل الهاجس الكبير والمطلب الأول كان في الأمل بالحصول على وظيفة لمن فقدها، والخوف من فقد وظيفة لمن لايزال يعمل، وهموم الاقتصاد والناس هي الشغل الشاغل. وقد أيقنت من حجم وعمق المأزق الذي تجد إدارة أوباما نفسها فيه. وليس مهمّاً للأميركي العادي الانسحاب من العراق، على رغم الترحيب بذلك. ولا يعرف معظم الأميركيين حقيقة الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، ولا عن الدولة الفلسطينية التي يطالب "أبو مازن" بعضوية دائمة لها في الأمم المتحدة. ولا يكادون يعرفون شيئاً عن خبر قبول فلسطين كدولة عضو في اليونسكو، أو عن عقاب أميركا لهذه المنظمة بقطع الدعم المالي الأميركي عنها. فكل هذا ترف لا يكترث له الأميركي المشغول بهمومه وشأنه الداخلي. وعلى كل حال فقد بدت أميركا كما عهدتها عندما زرتها للمرة الأولى كطالب قبل ثلاثين عاماً. فالأميركيون بطبيعتهم شعب طيب وبسيط ومنفتح، ويقدم المساعدة ويرشدك إلى وجهتك إذا سألته. بل إن أحد الأشخاص رافقني إلى محطة المترو في واشنطن وركب معي واتصل بالفندق الذي أسكن فيه من هاتفه النقال ليرسل السيارة لتقلني للفندق من محطة المترو! وعندما افترقنا شكرته وتبادلنا بطاقاتنا الشخصية، فإذا به ناشط سابق في حملة أوباما الذي عينه ضمن 2000 شخص في إدارته. وعرفني أنه كاتب خطب أحد المسؤولين في إدارة أوباما! وتساءلت وأنا أودعه، هل يمكن أن يحدث هذا في دولة عربية أو أجنبية غير أميركا؟! والأميركيون أيضاً شعب يعيش على المناسبات وينتظر المناسبة تلو الأخرى. في اليوم الأخير لزيارتي دعاني أحد الدبلوماسيين الكويتيين للعشاء في أحد المطاعم الراقية في العاصمة واشنطن، وكان المطعم يلفه ديكور مرعب كبيوت العنكبوت وموظفة الاستقبال والنادلة ترتديان وغيرهن ملابس مرعبة وتضعان على وجهيهما قناعاً يعبر عن المناسبة التي يترقبها الأميركيون سنويّاً ليعودوا لأيام الطفولة! إنها مناسبة "الهلاويين"! وبعدها بشهر سيحتفل الأميركيون بعيد الشكر، وبعدها بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة. وقد أخبرني أحد الخبراء الاقتصاديين أنه خلال الشهرين الأخيرين من كل عام وبسبب هذه المناسبات، فإنه عادة يتم إنفاق ثلث الإنفاق السنوي على الشراء والتبضع في الأسواق والمجمعات. وحجم الإنفاق هذا مؤشر مهم للوضع الاقتصادي وفرص إعادة انتخاب الرئيس من عدمه. وفي حالتنا هذه يتعلق الأمر بمستقبل أوباما. إن أميركا بلد لا تمل من زيارته والخوض في نقاش مع مثقفيه وعامته البسطاء، وزيارة جامعاته ومتاحفه وأسواقه ومجمعاته ومعالمه السياحية مستفيداً من الإبداع والخدمات والتسويق الشيق الذي يقدمه الأميركيون لأنفسهم وللآخرين الذين يأتون زائرين ومكتشفين ومتمتعين للتبضع وللعودة بذكريات تتجدد من وقت لآخر.. كل عام وأنتم بخير!!