الهستيريا التي رأيناها في واشنطن بعد تصويت "اليونسكو" على ضم فلسطين عضواً كامل العضوية في هذه المنظمة الدولية، وإنْ كان جهداً مصطنعاً إلى حد كبير، إلا أنه كان مزعجاً وتعليقاً حزيناً على الطابع المختل للسياسة الأميركية. فمن الرسالة التي وجهها الكونجرس إلى الإدارة ودعاها فيها إلى "معارضة المحاولات الخطيرة للفلسطينيين الحصول على اعتراف "اليونسكو"، والإيجاز الذي قدمه البيت الأبيض لمديري الشركات وحذرهم فيه مما قد تتعرض لهم مصالحهم في حال نجح الفلسطينيون في "إرغام الولايات المتحدة على قطع التمويل عن وكالة أممية"، إلى الاحتجاج الصاخب الذي رافق "القطع الأوتوماتيكي" لالتزامات الولايات المتحدة المالية والخطاب المخزي الذي حمَّل الفلسطينيين مسؤولية الإضرار بعمل "اليونسكو"… يمكن القول، إن كل جانب تقريباً من جوانب من هذه القضية كان سريالياً. لقد كنتُ هنا في واشنطن في 1993 و1994 بعد اتفاق أوسلو، عندما كان الكثيرون يتوقعون، في غمرة أجواء الحماس والفرح التي أعقبت مصافحة عرفات ورابين ومراسم التوقيع على عشب البيت الأبيض، أن يقوم الكونجرس بإلغاء قائمته الطويلة من التشريعات المناوئة للفلسطينيين. فقد كان ذلك سيصبح الشيء الصائب والصحيح، ولكن ذلك لم يحدث؛ لأن آيباك وأنصار "الليكود" المتشددين فيها لن يقبلوا بذلك. وهكذا وبدلًا من تغيير أو إلغاء القوانين المناوئة للفلسطينيين التي كان قد مررها خلال العقد السابق، دُفع الكونجرس إلى وضع عقوبات أشد على علاقات الولايات المتحدة مع منظمة التحرير الفلسطينية والدعم الذي تقدمه لها. وبدلًا من أن تتم إزالة الحظر على نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن أو حتى زيارة الولايات المتحدة، مُنحت المنظمة "تنازلاً" للعمل في أميركا يمكن سحبه تحت بعض الظروف، وكان يتطلب تقريراً دورياً من الإدارة إلى الكونجرس حتى يظل ساري المفعول. كما مُنحت مساعدات للفلسطينيين، ولكن تحت شروط أكثر إذلالًا من أي حزمة مساعدات أميركية أخرى. وعلى الرغم من السيطرة "الديمقراطية" على مجلس النواب، تغلبت السياسة المتشددة الموالية لإسرائيل على دعوات الإدارة للكونجرس إلى اتخاذ خطوات أكثر دعماً لسلام إسرائيل - فلسطيني. وبعد سيطرة "الجمهوريين" على الكونجرس عام 1994، بدا الأمر كما لو أن "الليكود" قد نقل مكاتبه إلى مقر الكونجرس الأميركي. وفي لحظة من اللحظات، أصبحت جهود "آيباك" والكونجرس الرامية إلى الضغط على الفلسطينيين ومعاقبتهم جد مثيرة للقلق لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتئذ إسحاق رابين جاء إلى واشنطن ليوجه رسالة غاضبة إلى "آيباك" طالبهم فيها بأن "يتراجعوا"؛ لأن تدخلهم في الكونجرس بدأ يشوش على جهوده الرامية للتوصل إلى السلام. القانون الذي طبق الآن ويعلق تسديد الولايات المتحدة لالتزاماتها المالية تجاه "اليونسكو" هو نتيجة لذلك العهد: عهد الليكود وحلفائه في واشنطن الذين كانوا يرغبون في نصب أكبر عدد ممكن من الفخاخ حتى يجعلوا السلام مستحيلاً، وعهد "الديمقراطيين" الذين لم يقفوا لدعم رئيسهم عبر معارضة هذه السياسة المعرقلة. والأمر المثير للحنق بالطبع هو الطابع الانتقائي لذكريات الأشخاص الذين يديرون واشنطن الرسمية. فبدلاً من تذكّر أن هذه القوانين التي تنص على سحب "أوتوماتيكي" لمساهمة الولايات المتحدة المالية إنما مُررت تحديداً بهدف معاقبة الفلسطينيين وجعل السعي وراء سلام إسرائيلي - فلسطيني أكثر صعوبة، يتصرف السياسيون اليوم، كما لو كانت هذه العقوبات كتاباً منزلاً من السماء. وعندما يتأسف المسؤولون هنا لفرض هذه القوانين بقولهم "إننا لا نملك خياراً"، حتى في الوقت الذي يدركون فيه الأخطار التي تطرحها هذه القوانين على الولايات المتحدة والعالم، فإن ما يقولونه في الحقيقة هو أنهم يفتقرون إلى الشجاعة والإرادة السياسية للتحرك وتغيير القوانين ذاتها التي وضعوها. ولأن المشرعين الأميركيين يرفضون تحدي الأنصار المتشددين لليكود داخل "آيباك"، فإنهم يحمِّلون الفلسطينيين بالتالي مسؤولية إرغامهم على مواجهة الوضع الذي خلقوه بأنفسهم ويرفضون اليوم تغييره. وفي العالم السريالي الذي خلقته هذه العقلية، تصبح أميركا هي الضحية التي يتم إرغامها اليوم على القيام بشيء تدرك أنه سيضر بفقراء العالم، وسيعوق جهود المحافظة على تراث عالمي، وسيضر بمصالح الشركات الأميركية، وسيلحق مزيداً من الضرر بصورة أميركا ومكانتها المتضررتين أصلاً في العالم. الأكيد أن الفلسطينيين لديهم مشكلات في الداخل، وعليهم أن يسعوا إلى التوصل إلى مصالحة وطنية، وأن يمنحوا شعبهم الأمل الذي يقوِّيهم حتى يصبحوا جزءاً من كفاح حقيقي لتحرير أمة. غير أنه خلال العقود الأخيرة، لم يضطر الفلسطينيون إلى مواجهة احتلال إسرائيلي وحشي ومذل وتوسعي فقط، وإنما اضطروا أيضاً إلى مواجهة أميركا لا تتوانى عن تقديم الدعم لهذا الاحتلال، أميركا تدعي لعب دور الزعامة كوسيط نزيه، في الوقت نفسه الذي تتصرف فيه كداعم ومشجع لطرف واحد في النزاع. ولهذا السبب، وبقدر ما أجد هذا الوضع مؤلماً، فإنني أعتقد أنه كان من المهم أن ينكب الفلسطينيون على هذه الاستراتيجية لإرغام واشنطن على مواجهة وقبول الأسباب التي تقف وراء إخفاقاتها في الشرق الأوسط وعزلة متزايدة في العالم. والواقع أنه حتى يكون ثمة سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يتعين على أميركا أن تتغير. ولكن هذا لن يتأتى بسهولة، حيث سيكون ثمة مزيد من مظاهر الغضب والاحتجاج الصاخب والشكوى من أن "الفلسطينيين يسلكون مساراً خطيراً" أو "يرغموننا على القيام بهذا أو ذاك". ولكن في الواقع كل ما نُرغَم على فعله الآن هو التعامل مع إخفاقنا ومواجهة ما أصبح على نحو متزايد السببَ وراء عزلتنا التي فرضناها على أنفسنا بأنفسنا.