لا يمكن لأي مسلم أو غير مسلم أن يفهم قوانين أو تشريعات الأسرة والأحوال الشخصية في الإسلام، دون أن يعرف تفاصيل حياة المرأة والأسرة في مكة والمدينة منذ ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي. وهي المرحلة التي تحدثنا عن تركيب مجتمع مكة والنشاط السكاني فيها. ونود الآن أن نتحدث عن الأسرة باختصار شديد، من خلال ما جمعته د. إلهام البابطين من معلومات عنها في كتابها "الحياة الاجتماعية في مكة"، المنشور عام 1998. وأبرز ما نلاحظه على خطوات تكوين الأسرة لدى أهل مكة قبل الإسلام، أنها لم تتبدل كثيراً بعد الإسلام، حيث أقر الدين الجديد الكثير من عاداتهم في هذا المجال. فتقول الباحثة مثلاً، إن "من أكثر أنكحة الجاهلية شيوعاً النكاح الذي يتم بخطبة المرأة من وليها، واشتُرط فيه القبول والمهر وشاهدا عدل. وقد أقره الإسلام، وورد عن رسول الله (ص) القول: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" وفي رواية "وشهود ومهر". وكان بعض الآباء عند ظهور الإسلام يشاورون بناتهم قبل تزويجهن، وسجّلت المصادرُ عدداً من الحالات التي تعتذر فيها المرأة عن الزواج، وقد ترفض الزواج من رجل متزوج، مثلما حدث لبنات عتبة بن ربيعة. أما ما ذكره الباحث "محمد بطاينة"، في كتابه "الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام"، تقول د. البابطين، "من أن أهل البكر ينوبون عنها نيابة تامة عند تزويجها، فلا أساس له من الصحة". وكان الزواج بين الأقارب سائداً بين العرب قبل الإسلام، لا سيما أبناء العمومة، وهذا ما قام به الرسول (ص) نفسه مع بناته، وقد تُسمى البنت في صغرها في أحيان كثيرة لابن عمها، وقد تسمى لغيره. "فكانت السيدة خديجة بنت خويلد مُسمّاة لابن عمها ورقة بن نوفل، وكانت السيدة عائشة مُسماة لجبير بن مطعم، وسُميت ابنةٌ للزبير بن العوام بعد ولادتها، لقُدامة بن مظعون الجمحي". وكان العرب قبل الإسلام يجمعون بين الأختين فأبطل ذلك الإسلام. ولكن استمرت عادة تسمية ابنة العم لابن عمها، وأنه الأحقُّ بالزواج منها من الغريب، فلما خُطبت بنت عمر بن الخطاب قال ابن عمر: "إن ابن عمها أحق بها، فزوّجها عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب". ويستحسن البعض أن يختار الرجل لابنته الرجل الصالح. ولا تتحدث د. البابطين عن رؤية المخطوبة قبل الزواج، ويقول الشيخ "د. قلعة جي" في موسوعته، إنه يُستحب للخاطب أن يرى مخطوبته ولو خُشيت الفتنة، "فإن النظر المفضي إلى الفتنة محرم إلا لمصلحة راجحة، وما مُنع سداً للذرائع يباح للمصلحة الراجحة، ويجوز له أن ينظر منها إلى ما يظهر منها عادة من غير تبذل، كالوجه والشعر والنحر والساعد، لما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال جابر: فخطبتُ امرأة، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها". ويضيف د. قلعة جي، "وإن رآها مرة ورأى في نفسه حاجة أن يراها ثانية، لأنه لم يتبين منها أشياء يرغب فيها، أو يكرهها، جاز له أن يراها ثانية وثالثة. ولا يشترط إذنها في الرؤية ولا إذن وليها، ويجوز له أن يراها من غير علمها". أما عن خطبة نساء الموالي فيرد لدى ابن عبدربه في العقد الفريد، رواية تفيد أنها تُخطب من مواليها فإن رضي مولاها زُوجت وإلا رُد خاطبها، وإن زُوج الأب أو الأخ بغير رأي المولى، فُسخ النكاح. وهناك إشارات قليلة، تضيف د. البابطين، تفيد بتزويج رجال قريش للموالي وتزوجهم منهم، إلا أنه لم يكن من المستساغ عُرفاً أن يتزوجوا منهم أو يزوجوهم بناتهم، وكانوا يُعيِّرون الرجل الشريف إن تزوج امرأة من نساء الموالي أو زوّج ابنته منهم. ولما جاء الإسلام غيّر هذه النظرة فأدخل بعض التعديلات في مصاهرة الموالي. و"يحتاج الرقيق إلى الإذن من سيده للنكاح. ففي رواية تعود للعهد الأموي تفيد أنهم لا يسمحون بزواج العبيد إلى غير العبيد وكانوا يعاقبون على ذلك". وإذا ملكت امرأة عبداً، يقول د. قلعة جي، "جاز له أن ينظر إليها، وجاز لها أن تظهر أمامه بغير حجاب، أي جاز أن يظهر منها ما يبدو منها غالباً في الأحوال العادية، كالنحر والزند والساق وأعلى الصدر وأعلى الظهر. وإذا ملك الرجل أمةً لا زوج لها جاز له أن يجامعها دون عقد نكاح. ونظراً لصعوبة تقيّد الأمَة بقيود الحجاب، لأنها أُعدّت لخدمة الضيوف ولقضاء الحاجات، فقد خفّف الله عنها الحجاب، فلم يأمرها بما أمر به الحرة من الحجاب". وقد يُفهم من هذا، أن الخادمة اليوم، قد تقاس أوضاعها بذلك من ناحية عدم الالتزام بالحجاب، إذ "لو قاس ذلك فقيه لكان له حظ من النظر". (ص 972). وكان الصداق أو المهر معروفاً في مكة عند ظهور الإسلام، وفي بعض الأحيان يكون هو الأساس في إتمام الخطبة. وقد يستأثر بالمهور وليُّ الأمر. وقد كانت العرب تقول لمن وُلدت له بنتاً: هنيئاً لك النافجة، ويعنون بذلك أنه يأخذ مهرها إبلاً إلى إبله فتنفجُ ماله، أي تعظِّمه. وكان أهل مكة قبل الإسلام، تقول الباحثة، يكرهون تزويج بناتهم في شهر شوال تطيراً منه، بسبب طاعون وقع في إحدى السنوات. وعلى العكس استحسن الإسلام الزواج في هذا الشهر خاصة، أما حفلات الزواج فكانت كبيرة أحياناً، وقد نحر أبوسفيان عَشْرَ جزائر -خرفان- عند زواجه بهند بنت عتبة، وقد أطعم في اليوم الأول لحم جزور وسقى الخمر، وفي اليوم الثاني لحم غنم وسقى نبيد الزبيب، وفي اليوم الثالث لحم طير وسقى نبيذ العسل. وكانوا يسمون طعام العرس بالوليمة، وقد تقام أحياناً من قبل أهل البنت إذا كان الأب من ذوي المكانة. وقد يصاحب بعض الولائم إحضار المغنين والعزف بالغرابيل والمزامير والتغني بأغاني الأفراح. وفي أول الإسلام جرى الحثُّ على إعلان النكاح والضرب عليه بالدفوف والغِربال، وهو كذلك نوع من الدفوف. وكانت عبارة التهنئة قبل الإسلام "بالرفاء والبنين" و"بالرفاء والثبات والبنين لا البنات". وكان تعدد الزوجات شائعاً في مكة عند ظهور الإسلام. أما قول الطبري إن الرجل من قريش كان يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، تؤكد الباحثة، "فلم نعرف من خلال تراجم القرشيين وأخبارهم التي اطلعنا عليها في المصادر من تجاوز خمس زوجات، وهي حالات قليلة جداً، على أنه ينبغي القول إنه وُجد أفراد قلائل من وجهاء قبيلة ثقيف في الطائف بلغ عدد زوجاتهم عند ظهور الإسلام عشر نساء مثل غيلان بن سلمة الثقفي".