فعلتها الإدارة الأميركية، فما أن أعلنت منظمة اليونسكو العالمية قبول عضوية فلسطين في صفوفها حتى أعلنت الخارجية الأميركية رفضها القرار والتوقف عن دفع مساهمتها المالية للمنظمة وقيمتها خمسون مليون دولار أميركي، وهي ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الولايات المتحدة الأميركية هذا الموقف. سبق لها أن قاطعت اليونسكو. وعندما عادت كانت عودتها مبرمجة وأولى خطوات البرمجة رفض معاهدة أو اتفاقية التنّوع الثقافي وقد ساهمت في عدم إقرارها عام 2003. منذ أسابيع، عندما حاولت السلطة الفلسطينية الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، استخدمت أميركا كل أساليب الضغط والترهيب لمنع حصول ذلك. وهدّدت علناً أنه في حال أقر هذا الأمر وفي حال استمرت السلطة في سعيها من أجل تمرير القرار فإنها ستوقف مساعداتها المالية لها والتي تقدّر بخمسماية مليون دولار. واليوم اتخذت الموقف ذاته من اليونسكو لكن فلسطين احتلت موقعها في قلب هذه المنظمة. أمر معيب ولا أخلاقي من الإدارة الأميركية أن تعترض على انضمام فلسطين إلى منظمة الثقافة والتربية والعلوم. فلسطين دولة الشعب الأكثر سعياً ورغبة في التعلّم والتطور والإنتاج. وكأنه ممنوع على الناس التواصل الفكري والثقافي والتربوي والموسيقي والفني والتراثي. أو كأن المطلوب التأكيد أن ليس ثمة شعب فلسطيني مبدّع. وفي صفوفه فنانون وكتّاب ورسامّون وموسيقيون وتربويون ومثقفون وصلوا إلى العالمية بانفتاحهم على الإنسانية وبابداعهم وتفاعلهم مع ثقافات العالم. أو كأن المطلوب التأكيد على أنه حتى لو كان هذا الشعب موجوداً ويمتلك هذه القدرات فممنوع عليه أن تكون له دولة. وبالتالي لا مكان لفلسطين على الأرض وفي الأمم المتحدة أو في اليونسكو وغيرها. مثل هذا الموقف غير المستغرب من أميركا لا يمكن أن يساهم في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة، بل هو يسبب المزيد من الحقد والكراهية ضد السياسة الأميركية، وبالتالي يبقي باب الصراع مفتوحاً على الأرض بكل الوسائل والأساليب كما يبقي الذاكرة حيّة ويرسّخ في أذهان أبناء الشعب الفلسطيني وعلى مدى أجيال من الزمن المواقف العنصرية التي تتخذها الإدارات الأميركية المتعاقبة والمنحازة دائماً إلى إسرائيل وإرهابها. فقد توقّع كثيرون أن تكون هدنة على الأقل بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد إتمام صفقة تبادل عدد من الأسرى الفلسطينيين بالأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط. لكن التوقع سقط قبل إتمام الصفقة. إسرائيل قبل أن تستكمل تسليم الأسرى المشمولين بالاتفاق، صعدت الموقف وقصفت مناطق فلسطينية واستكملت بناء مستوطنات جديدة. ليس في قاموسها اتفاق وتسوية وسلام. وإسرائيل تبدي ارتياحها للموقف الأميركي في الجوهر والأساس، وللموقف الأخير من اليونسكو. أبسط ما يجب القيام به اليوم، هو تعزيز وحدة الموقف الفلسطيني، فالحركة التي قام بها رئيس السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة أربكت إسرائيل، ووتّرت قادتها، وأحرجت قادة أميركا. حققت مكسباً سياسياً دبلوماسياً إعلامياً للسلطة. ساعدت حركة المقاومة لأنها كشفت أن إسرائيل ومن وراءها لا يريدون سلاماً ولا يريدون الإقرار بحق الفلسطينيين بإقامة دولة على أرضهم وبالتالي لا مجال أمامهم سوى التمسك بخيار المقاومة والصراع في وجه الإحتلال والإرهاب. والحركة التي قامت بها السلطة في اليونسكو حققت نجاحاً معنوياً إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً وثقافياً كبيراً للشعب الفلسطيني، وهي أدّت إلى ردات الفعل المذكورة من قبل إسرائيل وأميركا وحلفائهما. وساعدت أيضاً في تكريس فكرة المقاومة واستنهاض أبناء الشعب الفلسطيني. إنها فلسطين الحاضرة في كل مكان. وأساس الصراع والأمن والاستقرار في المنطقة. وفي المقابل ما قامت به "حماس" على مستوى الأسرى، ثم صفقة التبادل شكل خطوة متقدمة جداً لتأكيد الموقع التفاوضي للفلسطينيين وقد كان مهماً التناغم الذي حصل بين السلطة الفلسطينية في رام الله وحركة "حماس" في غزة. لقد عززّت هذه المواقف الأمل بتحقيق وحدة فلسطينية ضرورية لا بد منها مبنية على الثوابت الأساسية التي تجمع أبناء الشعب الفلسطيني. ومهما حاولت إسرائيل واستفادت من دعم أميركا وغيرها، وحاولت الاستفادة مما يجري في العالم العربي تحت عنوان أن خطراً بدأ يظهر من التحولات في عدد من دوله، وهي تذهب في اتجاه أنظمة "إسلامية" "متطرفة"، تشكل تهديداً لأمنها واستقرارها ومستقبلها، وبالتالي تريد حشد أكبر دعم لها تحت هذا العنوان، ومهما حاولت أن تفعل لتكريس مثل هذه القناعة، فإن حقيقة تاريخية قائمة لن تستطيع هي ومن معها ووراءها إلغاءها، وهي حقيقة الشعب الفلسطيني ووجوده وحقه في البناء على أرضه وإقامة دولته المستقلة عليها. لن تحقق سياسة العزل والفصل العنصريين التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين أي هدف لها. وثبت للجميع أن الإرهاب لا يمكن أن يحقق هدفه من أي جهة أتى. والشعب الفلسطيني الذي يناضل منذ عام 1948 وبعد هذا الكم الكبير الهائل من التضحيات التي قدّمها والآلام التي تحملّها لن يستسلم لإسرائيل وإرهابها، بل هو يزداد قوة وصلابة وتمسكاً بحقه ويضاعف قدراته الميدانية على الأرض ويعزز حضوره في المنتديات الدولية، رغم الخلافات العاصفة بين قواه الحيّة ورغم الغياب العربي شبه الكامل عن التأثير في مجريات الأحداث بسبب انغلاق كل دولة على حالها واهتمامها بشؤونها الداخلية وانشغالها عن أية قضايا أخرى. لو تبصرنا قليلاً، لسألنا، إذا كان الشعب الفلسطيني قد استطاع تحقيق هذه الأهداف في هذه الظروف فكم كان سيظهر قوياً وفاعلاً ومؤثراً لو أن قواه وحدت رؤيتها وموقفها وقواها، ولو أن العرب كانوا أكثر تفاهماً وانسجاماً واحتضاناً للقضية الفلسطينية والرؤية الفلسطينية الواحدة؟ ما جرى ويجري يجب أن يشكل درساً نتعلّم منه جميعاً. لكن الواضح أن ثمة من يعيش فوق الحقائق والوقائع. ثمة من يكابر ويغامر ويعيش حالة وهم وإدعاء، بل بات أسيرها. العالم يتغير، كل العالم يتغيّر وهؤلاء لا يغيّرون أفكارهم ولا يحاولون الخروج من حالاتهم تلك لكنهم سيتغيرون حُكماً، وسنكون أمام حالات جديدة. في انتظار ذلك ورداً على الموقف الأميركي من اليونسكو، على الدول العربية والممولين العرب حتى تأمين الدعم اللازم لهذه المنظمة ليس تقديراً لموقفها وإعطاءً لإشارة مهمة لكل من ساند انضمام فلسطين إليها. بل للتأكيد أن الموقف الأميركي لن يكون ذا تأثير في جانبه المالي، وأن فلسطين ستكون كاملة العضوية هناك وستلعب دورها الفاعل والبارز وأن الابتزاز والضغط الأميركيين ليسا قدراً حاسماً في تاريخنا وحياتنا! غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني