ربما لا يبدو مستغرباً فوز حزب "حركة النهضة" الإسلامي بأكثرية مقاعد المجلس التأسيسي المناط به وضع الدستور الدائم لتونس وإجراء أول انتخابات عامة ديمقراطية بعد نهاية الحكم الدكتاتوري. كانت انتخابات ديمقراطية نظيفة أجمع المراقبون على سلامتها، وقد خلت من أحداث عنف أو فوضى باستثناء حادث واحد سارع الغنوشي إلى إدانته وأعلن براءة حزبه منه. لقد فاز حزب "النهضة" إذن، لكنه لم يحصل على الأغلبية التي تمكنه من الانفراد بالسلطة. وكما انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس، فإن تونس تسبق غيرها في السير على طريق البناء الديمقراطي الذي يحقق الحرية والعدل وحقوق الإنسان. وليس ذلك مستغرباً، فتاريخياً كانت تونس أكثر البلاد العربية تأهيلاً واستعداداً لتأسيس وبناء الدولة المدنية، بفضل القيادة السياسية الوطنية لبورقيبة والحزب الدستوري الحر وأمينه العام المرحوم صالح بن يوسف الذي اختلف مع رفيقه بورقيبة. إن التيار التقدمي الذي عرف باليوسفية آنذاك، لم يتح له بورقيبة الفرصة، وعامله بقسوة، مما اضطر بن يوسف وبعض رفاقه للهجرة واللجوء إلى الخارج، لكن بذرة التقدم التي غرسوها لم تمت، وظل تأثيرها قوياً في الفكر والحركة، ودليل ذلك أن تونس كانت أول بلد عربي حقق المساواة بين الرجل والمرأة، كما ظلت عضواً مؤسساً في تجمع الأحزاب الاشتراكية الأفريقية بقيادة الرئيس والشاعر ليوبولد سينغور. وكما يفعل الزمن دائماً في القادة، ومع تقدم السن، تكالب الانتهازيون وأصحاب المصالح الخاصة حول "المجاهد الأكبر"، وضعفت قبضته على الحزب والدولة، حتى وصل إلى قمة السلطة "تلميذه النجيب" ورئيس مخابراته الجنرال بن علي، وبقية القصة معروفة لشهود الماضي القريب. حدث "فراغ سياسي" مع تراجع نفوذ وسلطة "الحزب الدستوري الحر"، فبدأ صعود الغنوشي وتنظيمه الذي سماه "حركة النهضة الإسلامية"، وكانت التسمية إحدى علامات ذكاء الغنوشي الذي هو أصلاً عضو بـ"جماعة الإخوان المسلمين" وتنظيمها العالمي. في تونس صعد نجم الغنوشي، وفي السودان صعد نجم الترابي، وفي الجزائر برز عباس مدني، وفي مصر بدأ بالظهور تيار "الإخوان" الشباب الذين غيروا من التكتيكات القديمة للجماعة وانتبهوا إلى دور وأهمية العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني، وقرروا -في ظل الظروف الأمنية القاسية- الخروج من قوقعة "الإخوان" التقليدية والانفتاح على المجتمع كله، بينما انشقت أجنحة أخرى لتشكل "الجهاد" و"السلفية"، قبل أن تؤول إلى "القاعدة". المعنى المقصود من كل ذلك هو -ونحن بصدد الحديث عن تونس والفوز الانتخابي لـ"النهضة"- أن الحركة الإخوانية العالمية، أو على الأقل في العالم العربي، بدأت تشهد تحولات في أفكارها وشخوص قياداتها التي لم تستطع مواكبة حركة التغيير العالمية وطلائعها الشابة. لقد أعلن الغنوشي قبل وبعد الانتخابات أن حزبه يسعى لبناء الدولة المدنية الديمقراطية في تونس، وأنه سيدافع عن حق التونسيين في حرية الرأي والتعبير، وسيعمل على بناء الوطن الجديد بالتنمية والعلم، وأن النموذج الذي يتطلع إليه هو النموذج التركي. وأعلن الحزب انخراطه في محادثات ومشاورات مع أحزاب أخرى لتشكيل حكومة ائتلافية... وهذه لغة جديدة في عالم الإسلام السياسي، ولعلها تكون بداية طيبة، لكنها تبقى بحاجة إلى النظر والمتابعة حتى يتحقق القول بالفعل.