ما حدث في ليبيا يتجاوز الخيال. لم يكن بإمكان أحد حتى أشهر قليلة مضت أن يتخيل سقوط نظام القذافي. لكن ما استعصى على الخيال تحقق في الواقع بعد أن بلغ تراكم الاستبداد والظلم والفساد ما لا مبلغ بعده. وثبت مجدداً أن قانون التراكم الكمي والتحول النوعي صائب في السياسة والمجتمع كما في العلم والطبيعة. قد يتأخر هذا التحول قليلاً أو كثيراً، لكنه يحدث في لحظة ما حين يبلغ التراكم الكمي نقطة معينة. فلا استثناء من هذا القانون الذي يفسر الكثير من سنن الله في الكون وليس فقط في حياة البشر وغيرهم. لذلك فقد جانبَ بعضُ علماء السياسة والاجتماع الغربيين الصواب عندما اعتبروا العالم العربي استثناءً على صعيد التحول الديمقراطي، وخصوا بالذكر بلاده التي شهدت تراكمات هائلة من الاستبداد والفساد في ظل نظم تعود أصولها إلى انقلابات عسكرية. وجدوا انتهاكات هذه النظم وأجهزتها الأمنية في ازدياد، فظنوا أن هذه الممارسات لا تحقق التراكم الكمي، أو أن هذا التراكم يحدث في بيئة غير قابلة لإنتاج تحول نوعي. ولعلهم شرعوا في مراجعة فهمهم لهذه البيئة والعوامل التي أخرت حدوث التحول فيها. غير أنه لكي تصح هذه المراجعة، ربما يكون ضرورياً أن تأخذ في الاعتبار ملاحظتين مبدئيتين: الأولى هي اختلاف البيئة الداخلية من بلد عربي إلى آخر حتى إذا كانت هناك قواسم عامة أو مشتركات. فالبلاد العربية ليست متماثلة في أوضاعها الداخلية ولا في مصادر شرعية نظمها السياسية ولا في نوع العلاقة بين هذه النظم والشعوب. ومن شأن التعميم في هذا المجال أن يوقعَ في أخطاء جديدة. أما الملاحظة الثانية فهي أن التغيير يحدث، وفق قانون التراكم الكمي والتحول النوعي أيضاً، لعوامل داخلية بالأساس وقبل كل شيء وليس تأثراً بما يحدث في بلد آخر أو نتيجة "عدوى" إقليمية. فكان في كل من البلاد الثلاثة التي حدث فيها تغيير (تونس ومصر ثم ليبيا) من العوامل الدافعة إليه ما يكفي ويزيد. وقل مثل ذلك عن اليمن وسوريا اللذين وصل مخاض التغيير فيهما إلى مرحلة متقدمة. فلا يسعى أي شعب إلى تغيير في بلده تأثراً بغيره أو اقتداءً بجاره، بل نتيجة معاناة تتراكم عبر فترة من الزمن. لكن هذا لا يعني إغفال أن التغيير في بلد يمكن أن يجعل المحتجين في بلد آخر أكثر ثقة في قدرتهم على تحقيق مثله لأسباب تخص هذا البلد قبل كل شيء. وهذا ما شعر به شباب في مصر بعيد نجاح أقرانهم في تونس. وربما يكون الوضع مختلفاً بالنسبة لليبيا، لكن ليس في الجوهر. لم تكن هناك دعوة إلى الاحتجاج قبل تحقيق التغيير في تونس وبدء الاحتجاجات ثم انتشارها في مصر. فقد بدأت الدعوة إلى التظاهر في ليبيا في الأيام الأخيرة من يناير الماضي، أي في الوقت الذي بدا أن التغيير في مصر يقترب بعد أن تحقق في تونس. لكن العوامل الدافعة إلى التغيير في ليبيا كانت أكثر من تلك التي حركت الاحتجاجات في تونس ومصر. كانت تراكمات الاستبداد والفساد في ليبيا أضعاف مثلها في هذين البلدين اللذين توفر في كل منهما هامش من الحرية. كما كان نظام الحكم فيهما أقل قسوة منه في ليبيا. وكان هناك شيء من الممارسة السياسية في تونس ومصر، بخلاف ليبيا التي تعتبر مثالاً نادراً للتصحر السياسي. فقد نُزعت السياسة من الدولة ونظام الحكم وليس من المجتمع فقط. وهكذا كانت حاجة الليبيين إلى الخلاص من نظام القذافي أشد من غيرهم. لذلك كان أثر ما حدث في تونس ومصر عليهم محصوراً في التشجيع على التحرك سعياً إلى تغيير تراكمت العوامل الداخلية الدافعة إليه. لكن المهم هو أن يشمل هذا الأثر، في حالة ليبيا، البدء في إعادة زرع السياسة في مجتمع كان قد تصحر على هذا الصعيد. فقد كُسر حاجز الخوف عندما شاهد الليبيون ما حدث في تونس ومصر. وأسس ليبيون في الخارج صفحة على "الفيس بوك" للدعوة إلى تظاهرات سلمية تعبيراً عن الغضب، واختاروا يوم الخميس 17 فبراير بداية لها. وُوضعت على هذه الصفحة مقاطع مصورة لمشاهد قمع وحشي، مثل مجزرة سجن بوسليم عام 1996 التي راح ضحيتها ما يقرب من ألف وثلاثمائة شاب. لم تكن هذه المرة الأولى التي استخدم فيها شباب ليبيون في الخارج مواقع التواصل الاجتماعي في معارضة نظام القذافي. لكنها كانت المرة الأولى التي وجد فيها ليبيو الخارج تفاعلاً معهم من الداخل. فكانت لحظة بداية عودة السياسة إلى ليبيا مؤذنة بنشوب احتجاجات لم يتوقعها أحد. جاءت الشرارة الأولى لهذه الاحتجاجات في تظاهرة محدودة عندما خرج أهالي شهداء مجزرة سجن بوسليم وعدد من الشباب لا يتجاوز المائتين للتظاهر أمام أقسام الشرطة في بنغازي رافضين نظاماً سحق كرامتهم واستباح أرواحهم وأعراضهم. وتزامن ذلك تقريباً مع أولى إرهاصات الاحتجاجات في سوريا حين تجمع مئات الشبان في دقائق معدودات لمناصرة شاب صفعه شرطي في حي الحريقة التجاري بدمشق، وراحوا يهتفون في صوت واحد: "الشعب السوري ما بينذل". كانت لدى السوريين، كما الليبيين، أسباب أكثر من كافية للاحتجاج لأن الإذلال الذي تعرضوا له في بلديهما كان أضعاف ما عانى منه التونسيون والمصريون. وعندما بلغت تراكمات هذا الإذلال مبلغاً لا يمكن تحمله، وتتوفر في الوقت نفسه الثقة في إمكان الخلاص منه، حدث التحرك الذي تأخر كثيراً في ليبيا. لكنه ما أن بدأ، وحقق إنجازاً أولياً سريعاً فاق كل التوقعات عندما سيطر المحتجون على بنغازي وجزء كبير من شرق ليبيا في أيام معدودات، حتى لقي دعماً واسعاً على المستويين العربي والدولي وصولاً إلى تحرير طرابلس ودخول البلاد مرحلة مختلفة تماماً لا تزال معالمها غير واضحة. وقد لا تتضح هذه المعالم قبل عدة أشهر ستحدث خلالها تفاعلات سياسية داخلية جديدة. فقد انتهى عصر التصحر السياسي. وبدأت السياسة في العودة إلى ليبيا، لكن تغلغلها في المجتمع يتطلب وقتاً ستكون التفاعلات فيه نخبوية ومتأثرة بالدور المميز للجماعات التي تم تأسيسها خلال فترة الثورة إلى أن يصبح المواطن العادي حاضراً في العمل السياسي ومشاركاً في صنع مستقبله. لكن المهم هو أن تكون سياسة هذه الجماعات، والتي يتسم كثير منها بالتشدد ويعمل بعضها في صورة مليشيات مسلحة، من النوع الذي يقود ليبيا بعد القذافي إلى بر الأمان ولا يلقي بها في نفق مظلم جديد.