عرضت فضائيات عربية قضية الشباب الليبيين في السجون العراقية، منها ما كان له سابقة في دعم جز الرقاب بالعراق عبر بث كاسيتات مصورة دعاية قبل بدء العمليات الانتحارية نفسها. وطالبت تلك الفضائيات، تحت (نُكتة) الحيادية، بإطلاق سراح الليبيين الذين دخلوا العراق بعد عام 2003. لم يكن العراق (2003) وجهة سياحية ولا دراسية، فالحصار غرس أنيابه في المجتمع العراقي، وما بعده أَخذ الإرهاب يبث طواعينه. فما هي وجهة الليبيين من دخولهم العراق عبر الحدود المهتوكة آنذاك؟ هل كانوا سائحين أم دارسين أم أتوا مطبقين للدروس التي تعلموها في مدارس الإرهاب، ومنفذين لفتاوى عمائم القتل والتدمير؟! قولوا لنا: من هم هؤلاء الليبيون، هل هم رُسل "القاعدة" أم القذافي للحرب ضد الإمبريالية، في محاولة وقف تهاوي رؤوس الدكتاتوريين، أم رسل الوئام والسلام بالعراق؟! مثلما لذوي السجناء الليبيين بالعراق حق المطالبة بأبنائهم، ومخاطبة حكومتهم لإطلاق سراحهم بصفقة ما، من حق ذوي المقتولين والمغيبين العراقيين في كهوف "القاعدة" والسلفية الجهادية المطالبة بالحقوق. فدماء العراقيين ليست فاسدة ودماؤهم طاهرة! من حق أُمهات وآباء الأَطفال الذين وقفوا لشراء الخبز وفُجر فيهم المخبز. من حق أُمهات وآباء أطفال سقطوا صرعى في المدارس والرياض وحول برك الماء، أن يعرفوا ماذا فعل أطفالهم حتى يبادون إبادات جماعية من أجل الفوز بالجنة؟! أُمٌ لم تجد بقية لولدها كي تشيع له جنازة، وتقطع أملها في عودته، لأن دمه ولحمه اختلطا مع ما يباع من سلع في سوق من أسواق بغداد! من حقها أن تسأل ماذا كان يفعل هؤلاء الليبيون، وغيرهم من بلدان الغرب العربي والجزيرة وبلاد الشام واليمن وأفغانسان وباكستان والسودان، ماذا كانوا يفعلون ومواسم العراق ليست مواسم سياحة ولا دراسة؟! أعطبت الضمائر إلى هذا الحد، أن يصير القاتل ضحية والمقتول جلاداً؟! هناك شاعر عراقي، شعبي بلغتنا ونبطي بلغة أهل الخليج والجزيرة، هو مجيد جاسم الخيُّون (ت 1994)، حفظنا له منذ الصغر قصيدة كان يدافع فيها عن الفلسطينيين، وما حصل لهم في سنتي 1948 و1967 وينعت فيها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي دَيان(ت 1981)، بما يصعب ذِكره على صفحات جريدة! هنا استعير مطلعها فقط: "يا ضمير العلم المشلول ما هزتك خيمة... "! بدوري أُخاطب الضَّمير العربي، والضَّمير العالمي، والضَّمير الإعلامي، والضمير السياسي، والضمير السلفي، إذا كانت هناك ضمائر تُصنف حسب الحقول، ما هزت فواجع العراق ومقاتله تلك الضمائر، حتى ضاقت القبور على العراقيين، وانتعشت نجارة وتجارة التوابيت، ونشطت سوق الكتان الأبيض لكثرة الطلب على الأكفان! نعم، هناك وضع سياسي، أنعته بالقبيح للمحاصصة أولاً ولعدم كفاءة أهل السياسة أنفسهم ثانياً، في تخطي المحنة، وما حصل من تحسن أمني، مشوب بمفاجآت كارثية، فهو لطول المدة ووجود الأميركيين وكثرة القوات، فعدد أفرادها وصل إلى المليون، مقابل تكاثر الميليشيات تكاثر الأرانب. لكن هل من الإنصاف أن لا يتحمل مسؤولية تلك المقاتل والخراب أولئك القادمون لمهام القتل؟ ألم تتحمل دول أولئك جرائم مواطنيها داخل العراق؟! فكم نسبة حصة الانتحاريين الليبيين في القتل والخراب، وإعاقة إعادة الإعمار، وخلق حالة من التوتر، وهجرة ملايين العراقيين، وقصد إبادة أهل الأديان الأُخر، فآلة الإرهاب أرادتها طائفية، لأن طائفة بعينها، حسب معاهد السلفية الجهادية التي تخرج منها الزَّرقاوي (قُتل 2006)، وجنده ومنهم الليبيون، خارجة عن الإسلام، وبالتالي مصيرها الإبادة، فما بالك بغير المسلمين! وأن كل موظف حكومي، علا أو نزل، هو هدف للإبادة تحت مبرر التعاون مع الأَميركيين! حتى وصلت الحال إلى جز رقاب الجنائز. ما هي حصة الليبيين من فعل تلك الانتهاكات التي لو عددتها بداية من تفجير مركز الأُمم المتحدة (آب 2003) وحتى 2010، حسب ما حاولت رصدها عبر جدول في كتاب "مائة عام من الإسلام السياسي بالعراق" (مدارك 2011) ما وفيت، فالمقال لا يتسع؟ هل سألت تلك الفضائيات نفسها وهي تطالب بحقوق الإنسان لهؤلاء عن حيثيات دخولهم إلى العراق، وبالتالي الهدف الذي قدموا من أجله؟! لا أظن أن الحرب من أجل الإسلام، لقتل العراقيين باسم الانحراف عن الفرقة الناجية، فرقة الزرقاوي وبن لادن والإعلام المنصرف لخدمتهما، كانت مغرية، أو أن الحرب على الأميركيين، والدفاع عن ديار الإسلام بمقنع! لست مع عقوبة الإعدام، في هؤلاء الليبيين أو سواهم، ولو ظل العراق على إلغائها، منذ أُعلن ذلك عقب أبريل 2003، ليساهم بتكريس نمط جديد من الثقافة، وستُحصد الثِّمار آجلاً! ولو فعل العراق مثلما فعلت رومانيا، عندما اكتفت بإعدام تشاوسيسكو (1989) وألغت عقوبة الإعدام لضربت مثلا حياً في المنطقة، فهذه العقوبة أدت إلى زلزلة الشخصية العراقية، وترون العراقي يقول في الجد والمزاح تعبيراً عن تسهيل الأُمور: "قابل راح ننعدم"! ستقولون بإميركا موجود حكم إعدام فلماذا العراق يُلغي تلك العقوبة؟! الجواب لأن العراق مدمرٌ بثقافة العنف والثأر، فإلغاؤها سيساهم في ترويض العراقي على تقديس الحياة، وهي التي أُنتهكت بشراسة في الأزمنة السابقة، ومن قبل كائنات الموت، وهي تجوب سهوله وبطاحه وجباله. من الغرابة بمكان، أن يصبح السلفيون اللِّيبيون مناضلين ضد الأميركيين والحلف الأطلسي بالعراق؛ وهم المناصرون له بليبيا! تجد تلك الفضائيات مناضلة ضد دول الأطلسي بالعراق ومؤيدة لها بليبيا، مع أن أميركا قائدة الأطلسي، وأن القوات البريطانية والإيطالية كانتا ضمن الحلف ببغداد وطرابلس. إنه الكيل بمكيالين، السلفيون أصدقاء للأطلسي في مكان وأعداء له في مكان آخر! فما قصة هذا التناقض! أترون أنه ليس للناس عقول يعقلون بها حتى يصدقوا أن هناك مظلومين ليبيين داخل سجون العراق، فأين أُلقي القبض عليهم أبطرابلس أم ببغداد! نقرأ عند الجاحظ (ت 255 هـ): "وفي العينِ غنىً للمرءِ.. أن تنطقُ أفواه" (البيان والتَّبيين). وما فعله اللِّيبيون ورفاقهم من الأُمم الأُخر رؤي بالعين ولم يُقرأ في الكتب أو سمع بالأذن، فـ"اللِّسان أكثر هذراً"(نفسه)، لكن مسؤولية اللِّيبيين وبقية السلفيين عن المقاتل بالعراق ليست هذراً. السُّؤال: أكان اللِّيبيون بالعراق سائحين أم ذباحين؟! أفيدونا!