عُرف الكاتب الفرنسي "فرانسوا بون" في معظم أعماله بالتركيز على مقاربة الموضوعات المتصفة بالجدة والراهنية في الحياة اليومية الآن، وهي قاعدة لا يشذ عنها في آخر مؤلفاته الصادر تحت عنوان: "بعد الكتاب"، وهو عنوان قد يبدو رناناً وجذاباً في السياق الثقافي الفرنسي خاصة، الذي اعتاد منذ زمن بعيد على حديث النهايات "المحتومة" في عالم الثقافة هذا، والذي تكتنز ذاكرته أيضاً بنظريات أصيلة في هذا المجال مثل نظرية رولان بارت الشهيرة حول "موت المؤلف" أي موت المعنى الموضوعي الجاهز لأي نص، وانفتاح أفق التأويل وإنتاج المعنى على مصاريعه دون أية قيود أو حدود أو سلطة للمؤلف على القارئ أو المقروء، وكذلك نظرية روجيه غارودي الشهيرة "موت الإنسان"، وإن كانت هي الأخرى أتت في سياق مختلف مؤداه نقد المدرسة البنيوية. والآن ها هو الكاتب "فرانسوا بون" يضيف، مع اختلاف في الموضوع وحيثية الطريقة، نهاية أخرى وموتاً جديداً في عالم الثقافة هو ما يمكن تسميته، ربما بقليل من الخيانة للموضوع الأصلي، بأنه "موت الكتاب" نفسه. وهنا في ما "بعد الكتاب" يقارب "فرانسوا بون" الطفرة الراهنة لصناعة الكتاب الرقمي باعتبارها نعياً حقيقيّاً وشبه نهائي للكتاب التقليدي المطبوع، مع كل ما يرتبط به من تقاليد في الصناعة والقراءة والثقافة في عمومها وإجمالها. وهنا يتتبع تاريخ هذه الصناعة منذ مراحلها البدائية الأولى وحتى عصر الطباعة، مشيراً إلى بعض التقاليد الصناعية- الثقافية التي عرفها كل عصر، ليصل من كل ذلك إلى وصف حال صناعة الكتاب اليوم، وغداً، مؤكداً أن البقاء سيكتب في النهاية للأصلح، وهو في حالتنا الراهنة الكتاب الرقمي، بكل تجلياته ومتعلقاته. وهذه الواقعة، في نظره، لم تعد مجرد احتمال أو هاجس قد ينتاب دور النشر التقليدية، وإنما أصبحت حقيقة قائمة، ويمكن التدليل عليها من تجربته هو نفسه الذي أصدر خلال مسيرته التأليفية الطويلة الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود 26 كتاباً، ولكن دار النشر الإلكتروني التي أنشأها قبل عقد واحد من الزمن سمحت له بنشر 31 كتاباً حتى الآن. غير أن أكثر ما يثير هذا العمل هاجسه ليس احتمال انقراض الكتاب التقليدي، فهذا حديث أصبح مكروراً وساريّاً منذ سنوات مديدة، وإنما الأخطر هو شبح اختفاء الكتابة نفسها بمعناها المعروف، حيث إن تحول الكتابة إلى العالم الرقمي يجعلها موضوعاً للتفاعل المفتوح بين الكاتب والقارئ، ومحل حذف وتعديل بشكل مستمر، من قبل المؤلف أو الناشر أو القارئ أو غيرهم بشكل كفيل بتحويل أي كتاب إلى شيء شبيه بمسودة دائمة أو نص مفتوح أو تجريب سائل من الكتابة غير المنجزة، ويكفي للدلالة على ذلك هذا العمل نفسه "بعد الكتاب" الذي تم تحوير وإعادة تحرير نشرته الرقمية سبع مرات، قبل صدوره في نسخته الورقية خلال هذا الشهر. وخلال صفحات كتابه الـ 288 يبني المؤلف تحليله لوقائع ونتائج التحول من صناعة -وثقافة- الكتاب التقليدي إلى الكتاب الرقمي منطلقاً من ثلاثة محاور استكشافية: محور ذاتي، حيث يسرد تجربته الشخصية مع العالم الرقمي التي تعود لأربعة عقود عندما كان عالم الكومبيوتر عموماً بدائيّاً إلى حد بعيد، مروراً باقتنائه لكومبيوتره الأول، البدائي أيضاً، سنة 1988، وصولاً إلى إطلاق موقعه الإلكتروني الأول سنة 2000، مبرزاً أثناء كل ذلك بدأب -وأدب- التحولات التي فرضها الاستكشاف المتواصل للعالم الرقمي على تجربته الشخصية في الكتابة والتأليف، وطريقته في الفهم والحكم على المنتج الثقافي، والحياة والناس بصفة عامة. والمحور الثاني تقني، وفيه يبرز الأخلاقيات المرتبطة بسبل توظيف تقنيات العالم الرقمي في الكتابة والتأليف. والمحور الثالث والأخير أنثروبولوجي، وفيه يستعرض آثار التطبيقات التقنية للعالم الرقمي على الثقافة الإنسانية عموماً، والكيفية التي يمكن بها ضمان عدم تأثر تلك الثقافة سلباً في عصر الأتمتة العمياء والتأليل الأصم والعالم الافتراضي الجارف. وفي المجمل فإن هذا الكتاب إن كان لا يستطيع ادعاء اكتشاف بعض أكثر التخوم إثارة وجاذبية في قارة "الديجتال" والعالم الرقمي، إلا أنه، على كل حال، يقدم إطلالة عن كثب على بعض التجليات الكاشفة لما ستكون عليه ثقافة الإنسان الرقمي اليوم وغداً، المستغني عن الكتاب التقليدي، وربما عن حتى فكرة الكتاب نفسها بعد أن تتحول القراءة إلى نوع من التجريب المفتوح، وبعد أن تصبح المكتبات أيضاً فضاء افتراضيّاً آخر، سابحاً في عالم سديمي واسع سعة تجعله لا يعني شيئاً محدداً على الإطلاق. حسن ولد المختار ------- الكتاب: بعد الكتاب المؤلف: فرنسوا بون الناشر: سوي تاريخ النشر: 2011