مما نُقل عن "بيل جيتس" في أحد المؤتمرات أنه قال بأنه لو قدر له تمني معجزة تغير وجه العالم وتحسن مصير الإنسانية خلال خمسين عاماً المقبلة، لاختار "معجزة الطاقة" بأن تكتشف تكنولوجيا جديدة تنتج الطاقة بنصف سعر الفحم الحجري ولا تطلق أي انبعاثات لثاني أكسيد الكربون. وأضاف جيتس إنه يفضل تحقق هذه الأمنية، أو المعجزة كما سماها، على اكتشاف لقاح جديد أو دواء فعال لعلاج مرض عضال. هذا الشعور الطاغي بأهمية الطاقة في تحديد معالم المستقبل وبلورة السياسة الدولية، يلتقطه الكاتب الأميركي المتخصص في شؤون الطاقة "دانيال يرجين" في كتابه الذي نعرضه هنا "البحث... الطاقة والأمن وإعادة تشكيل العالم المعاصر"، والذي من خلاله يسعى للإجابة عن مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالطاقة وعلاقتها بالسياسات العمومية. لكن قبل ذلك يبدأ الكاتب بالتذكير أولاً بمدى أهمية الطاقة في حياتنا المعاصرة، فلمدة طويلة من تاريخ البشرية ظل المجهود العضلي للبشر والحيوانات المصدر الأول والأساسي لتوليد الطاقة، وهو بالطبع ما حد من قدرة الإنسان على الإنجاز بالنظر إلى مصادر الطاقة البسيطة وغير المنتجة، غير أن الوضع بدأ في التغير انطلاقاً من أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر عندما سخر الإنسان طاقة البخار والفحم الحجري لتشغيل الآلات وإدارة المحركات المكتشفة حديثاً، فكانت النتيجة تفجراً حقيقياً للإمكانات البشرية والقدرة على إنتاج المواد والبضائع المصنعة. وبحلول عام 1957 كان الأدميرال "هيمان ريكوفر"، وهو أب الأسطول النووي الأميركي، قد اعتبر بأن 94 في المئة من الطاقة المنتجة في العالم خلال السنوات الأولى من الثورة الصناعية، مستمدة من المجهود العضلي للبشر والحيوانات، لكن بعد خمسينيات القرن الماضي انقلبت الإحصاءات رأساً على عقب ليشكل الفحم الحجري والغاز الطبيعي 93 في المئة من طاقة العالم. ويرى الكاتب أن هذه الأرقام المرتفعة لإنتاج الطاقة والطلب المستمر على مصادرها مرشحة للتنامي أكثر على مدى العقود المقبلة، فحتى لو تبنى الغرب سياسات العقلنة والترشيد في استهلاك الطاقة، سيضمن الصعود الواضح لقوى جديدة في العالم، توسعاً دائماً للطلب على الطاقة. وفي الوقت الذي يصل فيه الناتج الإجمالي المحلي للعالم إلى 65 تريليون دولار ترجح التوقعات ارتفاعه خلال العقدين المقبلين إلى أكثر من 130 تريليون دولار ما يعني استهلاكاً أكبر للطاقة وطلباً متزايداً عليها ليرتفع الاستهلاك العالمي بنحو 40 في المئة، هذا فيما ستقفز أعداد السيارات من مليار سيارة في العالم إلى ملياري سيارة في السنوات المقبلة. فمن أين ستأتي الطاقة لتشغيل كل تلك السيارات ولإمداد الاقتصاد العالمي بالقدرة على الإنتاج؟ يجيب الكاتب بأن مصدر الطاقة الأساسي في المدى المنظور سيأتي من الوقود الأحفوري، لاسيما أن جميع التوقعات بنهاية النفط ونضوبه أثبتت خطأها، ولا يتوقع الكاتب أن الأمر ستغير مستقبلاً، فرغم كل ما يُروج له عن نضوب الطاقة غير المتجددة مثل النفط وغيره، ما زال الوقود الأحفوري يمثل 80 في المئة من الطاقة التي يستهلكها العالم. ومع الاعتماد المتنامي على الغاز الطبيعي والصخور الزيتية وظهور تكنولوجيا جديدة لاستخراج النفط واستغلاله، من المرجح أن تظل الطاقة المستخرجة من الوقود الأحفوري لاعباً أساسياً على الساحة الدولية خلال العقود المقبلة. وفيما ينتقد الكاتب بعض المتطرفين الذين ينفون أي تأثير لمصادر الطاقة التقليدية على التغير المناخي في ظل المعطيات العلمية التي تثبت ضرر انبعاث ثاني أكسيد الكربون على البيئة، فإنه يدعو إلى تدخل الدول في هذا الصعيد، لكنه في الوقت نفسه يعيب على بعض المفرطين في تفاؤلهم رسم صورة مشرقة حول قدرة التكنولوجيا على تطوير المصادر الجديدة للطاقة، فالتكنولوجيا الجديدة المتوفرة حالياً تظل عاجزة عن توفير إمدادات كافية من الطاقة الرخيصة لتعويض الوقود الأحفوري. لكن رغم العجز التكنولوجي في الوقت الحالي عن استبدال مصادر الطاقة التقليدية واستمرار الحاجة إلى الفحم والنفط الرخيصين، فإن ذلك لا يعفي الحكومات، كما يقول الكاتب، من تحمل مسؤولياتها والقيام بأدوارها، لاسيما وأن الأمر مرتبط بالصحة العامة وبالتلوث. وفي هذا السياق يطرح الكاتب نقطتين أساسيتين يرى أنه على الحكومات التفكير فيهما: فإما جعل انبعاث ثاني أكسيد الكربون الناجم عن حرق الوقود باهظاً من الناحية الاقتصادية بفرض ضريبة على الكربون، أو تقديم الدعم المالي الضروري للأبحاث العلمية في مجال الطاقات النظيفة، علّ ذلك يفضي إلى قفزة نوعية. غير أن الكاتب لا يعول كثيراً على الدور السياسي للحكومات ما دام صناع القرار غالباً ما يراعون الحسابات السياسية الضيقة ولا يأبهون بالمعطيات العلمية والتأثيرات المستقبلية، ليخلص في النهاية إلى استمرار أهمية الوقود الأحفوري في رسم سياسات الدول في مجال الطاقة، ومعه استمرار المشاكل المرتبطة بالتلوث والتغير المناخي. زهير الكساب ------ الكتاب: البحث... الطاقة والأمن وإعادة تشكيل العالم المعاصر المؤلف: دانيال يرجين الناشر: بينجوين بريس تاريخ النشر: 2011