تصيب الأمراض السرطانية حوالي 13 مليون شخص سنويّاً، يلقى 8 ملايين منهم حتفهم بسبب مرضهم، وهو ما يضع هذه الأمراض على رأس قائمة أسباب الوفاة في الدول المتقدمة، وفي المرتبة الثانية بين شعوب الدول النامية والفقيرة، كونها مسؤولة عن 13 في المئة من جميع الوفيات التي تحدث بين أفراد الجنس البشري كل عام. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح تتسبب الأمراض السرطانية أيضاً في عبء مالي ثقيل، على المرضى المصابين، وعلى نظم الرعاية الصحية بأكملها. على صعيد المرضى يفقد كثيرون منهم عملهم بسبب مرضهم، أو على الأقل ينخفض دخلهم الشخصي بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى تحملهم لتكاليف متنوعة، تتراوح ما بين الانتقال شبه اليومي من وإلى المستشفى، أو استئجار سائق أو خادمة للقيام بالأعمال المنزلية، أو دفع بعض المصاريف الطبية التي لا تغطيها شركات التأمين من تحاليل وفحوص وأدوية. وهذه الحقيقة تتضح من التقديرات التي تشير إلى أن المرضى في بريطانيا، والتي يتمتع مواطنوها برعاية صحية مجانية بالكامل، يتحملون ما بين ألفين إلى 12 ألف جنيه استرليني من جيوبهم الخاصة أثناء علاجهم لمرضهم. هذا بالإضافة للتكلفة الاقتصادية الناتجة عن فقدان العناصر البشرية المؤهلة وصاحبة الخبرة، وفقدان الإنتاجية بسبب الإجازات المرضية والتغيب عن العمل. أما على صعيد نظم الرعاية الصحية، فغالباً ما ينفق ما بين 4 في المئة إلى 7 في المئة من مجمل ميزانيات هذه النظم على علاج الأمراض السرطانية فقط. وهذا الوضع يتوقع له أن يزداد سوءاً بمرور الوقت، حسب دراسة نشرت هذا الأسبوع في إحدى الدوريات الطبية المرموقة المتخصصة في مجال أمراض السرطانية (The Lancet Oncology)، وشارك فيها 37 عالماً وطبيباً من مختلف أنحاء العالم. وتقدر هذه الدراسة أن تكلفة علاج مختلف الأمراض السرطانية في الدول المتقدمة، تزيد عن 286 مليار دولار سنويّاً، وهو رقم مرشح للازدياد المستمر خلال العقود القليلة القادمة، حيث يتوقع أن يزيد عدد مرضى السرطان عن 27 مليوناً بحلول عام 2030. وتعود هذه الزيادة المتوقعة في عدد المرضى لأسباب عدة من أهمها ظاهرة تشيخ المجتمعات، أو ازدياد متوسط أعمار أفراد المجتمع، حيث يرتبط السرطان ارتباطاً وثيقاً بالتقدم في السن، بالإضافة إلى انتشار العادات الصحية السيئة مثل تدخين منتجات التبغ، وزيادة الوزن، والسمنة، المرتبطة أيضاً بالسرطان. وبخلاف الزيادة العددية في عدد المرضى، وما ينتج عنها من زيادة في مجمل حجم الإنفاق على علاج الأمراض السرطانية، يزداد أيضاً متوسط حجم الإنفاق على المريض الواحد. وهذه الزيادة الفردية في مقدار الإنفاق على علاج السرطان تعود بشكل أساسي، حسب رأي العلماء والأطباء المشاركين في الدراسة سابقة الذكر، إلى ثقافة الإفراط في الفحوص والتحاليل وسبل العلاج، دون أن تكون هناك أدلة علمية كافية على قيمة وفعالية الفحوص المطلوبة أو العلاج الموصوف. وهو ما يتضح مثلًا من قيام الطبيب المعالج بإجراء فحوص معقدة، وباهظة التكاليف، لتفسير سبب الأعراض والعلامات التي يشكو منها المريض، واستبعاد إصابته بالسرطان، على رغم أنه من الممكن تحقيق نفس الهدف، واستبعاد الإصابة، من خلال الفحص السريري الجيد، والمتضمن لتاريخ طبي كافٍ. ويعود أيضاً جزء آخر من هذه الزيادة إلى توافر المزيد من الخيارات في العلاج، وهي الخيارات التي غالباً ما تكون باهظة الثمن، من دون أن يكون هناك ما يكفي من أدلة علمية ودراسات على فعاليتها وكفاءتها. ففي عقد السبعينيات كان عدد المتوفر من أدوية وعقاقير علاج السرطان لا يزيد عن 35 دواء وعقاراً، أما الآن فعدد هذه العقاقير والأدوية يزيد عن المئة، أغلبها مرتفع التكلفة. وعلى سبيل المثال، تبلغ تكلفة أحد العقاقير (Velcade) المستخدم في علاج سرطان نخاع العظام أكثر من 18 ألف جنيه إسترليني (مئة ألف درهم تقريباً) ، وفي الوقت نفسه تصل تكلفة البديل الآخر (lenalidomide) إلى 4500 جنيه إسترليني في الشهر الواحد، طوال فترة العلاج. والغريب في هذه الأدوية كونها كثيراً ما لا تكون ذات فعالية في وقف زحف المرض، أو التخلص منه تماماً. وهو ما دفع البعض إلى المطالبة بقيام شركة الأدوية المصنعة لتلك العقاقير، برد ثمن العقار في حالة فشل العلاج. وبالفعل تقوم الشركة المصنعة للعقار الأول برد كامل ثمن العقار الأول إلى نظام الرعاية الصحية القومي في بريطانيا في حالة فشله في علاج المريض، واضطرار الأطباء لتجربة عقار آخر. أضف إلى ذلك أنه، بغض النظر عن نجاح أو فشل العقار المستخدم في تحقيق الشفاء، لا يوجد ما يبرر هذه الأثمان المرتفعة، ما عدا سعي شركات الأدوية إلى تحقيق أرباح هائلة من مبيعات أدوية، لا يتوفر للمريض أو طبيبه خيار في استخدامها. وفي النهاية تنتقد الدراسة بعض الممارسات الطبية غير السليمة وخصوصاً تلك التي توصف بالعلاج اليائس، الذي يتلقى فيه المريض مجموعة من العقاقير الكيميائية في المراحل النهائية للمرض، على رغم إدراك الأطباء أن هذا "الكوكتيل" لن يغير شيئاً من مسار المرض، وأن الوفاة هي المصير المحتوم. وتكمن مشكلة ارتفاع التكاليف الإجمالية والتكلفة الفردية في علاج مرضى السرطان، في حقيقة أن ميزانيات الرعاية الصحية -مهما عظمت- تبقى ميزانيات محدودة غالباً. وهو ما يعني بالضرورة أن ارتفاع تكلفة علاج الأمراض السرطانية، وخصوصاً ازديادها بشكل سنوي، سيؤدي حتماً إلى عجز هذه النظم عن توفير العلاج لجميع المرضى، أو للسحب من الميزانيات المخصصة لعلاج أمراض أخرى، غالباً ما يكون ما هو متوفر لعلاجها أكثر فعالية في تحقيق الشفاء مما هو متوفر لعلاج الأمراض السرطانية حاليّاً.