ليست المفاجأة في نسبة المشاركة الضعيفة في انتخابات المجلس الوطني الاتحادي (28 بالمئة)، وإنما المفاجأة برأيي في أولئك الذين فوجئوا بتلك النسبة الطبيعية، وكانت توقعاتهم مبالغاً فيها وليست منطقية. ومهما عدّد المراقبون من أسباب لضعف المشاركة في انتخابات المجلس الوطني، كقلة الوعي بالعملية الديمقراطية، وحداثة التجربة، وارتفاع نسبة الشباب والنساء في الهيئات الانتخابية، وعدم إعطاء حق التصويت لجميع المواطنين، وقلة صلاحيات المجلس الوطني، وغيرها من أسباب، فإن السبب الأهم برأيي هو السؤال الذي ربما خطر ببال الكثيرين صباح يوم الانتخابات: ما هو الدافع للذهاب؟ ففي نهاية اليوم، وقبل أن يأوي الإنسان إلى فراشه، فإنه يريد أن يطمئن إلى أنه يسكن في بيت مملوك له، لا يفكّر في كيفية تدبير أقساط الإيجار، ولا يخشى تقلّب مزاج المالك وارتفاع معدل الطمع في صدره. ويريد أن يطمئن إلى أنه تزوّج بمن أحب أو اختار، فلم يباعد بينه وبينها ضيق عيش أو أزمة سكن. ويريد أن يطمئن إلى أنه آمن في بيته، لا أحد يجرؤ على انتهاكه أو اغتصابه منه. ويريد أن يطمئن إلى أن عياله سيمضون في الصباح إلى المدرسة وسيعودون منها، وأن المستقبل أمامهم مشرق، فإن لم يكن مشرقاً فهو على الأقل ليس مظلماً. ويريد الإنسان في نهاية اليوم أن يطمئن إلى أن الطبابة متوافرة لو مرض، والرعاية متوافرة حين يشيخ. ويريد أن يطمئن إلى أنه لن يفقد وظيفته فجأة ولن يسرّح من عمله بشكل متعسّف، وأن الراتب التقاعدي يؤمِّن له عيش الكفاف على الأقل. ويريد أن يطمئن إلى أن كرامته مصانة، وحريته الشخصية محترمة، وأنه يمارس حياته الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل طبيعي وحر، وأن يكون مطمئناً إلى أن أي تجاوز لو حصل بحقه، فإن السبل أمامه مفتوحة لاسترداد حقه بالشرع والقانون. وبالطبع، هناك أشخاص لديهم سقف طموحات أعلى من سقف العيش المريح وراحة البال، فهم يعتقدون بأنهم جديرون ومؤهلون للدخول في عملية صنع القرارات ووضع الاستراتيجيات العامة، والعيش بالنسبة لهم كفاح على جميع المستويات، والديمقراطية بالنسبة لهم غاية بحد ذاتها، لكن هؤلاء الأشخاص قلة في كل المجتمعات، وهذا وضع طبيعي. وبينما الإنسان العادي في شرق الأرض وغربها، الديمقراطية بالنسبة له وسيلة أو زرعاً يأمل في نهاية الموسم أن يحصد منه ثمرة الطمأنينة وراحة البال ورفاهية العيش، لذلك يُقال إن نسبة مشاركة المواطنين في الانتخابات التي تُجرى في بلدانهم تزيد أو تنقص حسب توافر احتياجاتهم، فهي تزيد في البلدان التي يأمل فيها المواطنون الحصول على حقوقهم وتلبية مطالبهم واحتياجاتهم، والعكس في بلدان الرفاهية. والإنسان العادي الذي ينعم بعيش رغيد، ومهما كان وطنياً ومؤمناً بأداء واجب التصويت، لا يمكن مساواة دافعه للذهاب إلى صناديق الاقتراع بمن يحلم بذلك العيش ويعتقد أن الصناديق ستحقق حلمه. ولتوضيح الصورة، يمكن الرجوع إلى إحصائيات المشاركة في الانتخابات البرلمانية لنحو 169 دولة حول العالم خلال الفترة من سنة 1945 إلى 2001، والمنشورة في الموقع الإلكتروني للمعهد الدولي للديمقراطية ودعم الانتخابات، إذ تشير الإحصائيات إلى أن جمهورية سورينام حققت أعلى نسبة من المشاركة بنسبة 94 بالمئة، وربع سكّان هذه الجمهورية يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.