ضاعوا وأضاعونا معهم، تنصت لهم ويحدثونك عن الوطن وتطويره ولا هم لهم سوى أن يرقوا بحياتنا. هذا ما يقوله أي مسؤول عربي يعتلي المنصة ويحدثنا عن حب الوطن وتفانيه في خدمة الشعب. قالوا لنا: نناضل لأجل استرداد الأرض المغتصبة، فتعطل كل شيء في حياتنا لأجل الحرية والكرامة. هذا ما كانوا يقولوه لنا في المدارس. وتمر السنوات ولا الأرض تحررت ولا الكرامة استعيدت، بل استحلوا اللعبة، فكانت تسلية لهم. قال القذافي باستغراب، إنهم يريدون إسقاط نظامي، ثم يقول: إني لا أملك نظاماً، فقد سلمته ونقلته للشعب عندما أعلنت الجماهيرية، فالنظام هو الشعب، كيف يقاتل الشعب نفسه؟! العقل يطير وتتساءل النفس في صمت ومرارة: كيف يحكمون؟ هؤلاء مصابون بهوس! لكن أين هو العقل؟ أعتقد أنه فرّ منا، وضاق ذرعاً، فكيف يستقيم العقل وزعيم آخر يقول: فوضت نائبي بحكم الدستور والقانون؟ فأي قانون يتكلم عنه والدم يسيل والأطفال ينتفضون والنساء يصرخن: شبعنا منك، لقد حكمتنا عقوداً ودمرت وطننا فغادر سمانا! لكنه يصر على أنه الراعي والمسؤول والآخرون ليسوا سوى رعية له يسوقهم كما يريد، فهذه لعبته وهوايته. هكذا يتضاعف الألم وتئن النفس لحال الإنسان العربي. إنها السلطة والقوة والفساد، فالتاريخ مليء بقصصهم. إنه الاستبداد الذي يعشقونه وقد تربوا عليه، فهم ينظرون للخلف ويتعلمون من المستبد، فنصاب بمزيد من الحيرة ونسأل: لماذا لا يتعلمون الكرامة والحرية واحترام الشعب، ولماذا يخافوننا ونحن نحب ونعشق تراب الوطن، نحن أبناؤه ولسنا رعية أو قطيعاً ولا لعبة مسلية؟. رجعت إلى الوراء أتصفح كتب التاريخ، وإذا بالمقولة المشهورة للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تنط أمامي من الصفحات الصفراء وهي تقول: لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه! تذكرت الاستبداد الموروث فتساءلت عن واقع الاستبداد في عالمنا العربي. الحكم لا يقبل رأياً ولا يستبين نصحاً، لذا انتفخت معتقلاتنا بسجناء الحياة والكرامة، فالسجن هو الوطن والقضبان تحيط به من كل مكان. كم هو مؤلم أن يتحول الوطن إلى سجن كبير يندر فيه أوكسجين الحياة. إنها الحرية التي يموت الناس من أجلها يومياً في مشارق الأرض ومغاربها، إنها مأساة أمة تريد الحياة كباقي الأمم. أقول لنفسي: الناس يخرجون ويموتون، فيقول عنهم هؤلاء إنهم أعداء الوطن، ليستحقوا القتل، لكن القتل لا يشفي غليلهم، إذ تجدهم يبحثون عن مزيد من وسائل القهر والتدمير للنفس، فهذه لعبتهم وهوايتهم ونحن ضحاياهم. هم في السلطة ويقولون إننا نحكم باسم الشعب! أشعر بالاختناق من كلامهم، والناس لم تعد قادرة على هضمه، فقد بحثوا عن الكرامة ولم يجدوها وقالوا إننا نريد الكرامة قبل الخبز. الكرامة قتلت البوعزيزي في ثورة الياسمين، والخوف هو من أن يسرقوا فرحته في قبره، فقد ذهب عنا وودعنا، لكن كيف سنحفظه في الذاكرة؟ ليت المناهج الدراسية تعلم أبناءنا حجم التضحية التي قدمها البوعزيزي! أيها الياسمين كم تغنى بك نزار قباني! وخوفي من كم الكلام وقلة الحيلة، وخوفي على الياسمين أن يضيع منا بعد أن استنشقنا رائحته الزكية. إنه الخوف على حياتنا وكرامتنا التي سرقت منا. لقد سرقوا أوطاننا وعقولنا. لكن للتاريخ دورة، ولعل دورة الكرامة حلت، ولعلنا نتنفس أوكسجين الحياة لنقول: إنا بشر! د. على الطراح سفير الكويت - منظمة اليونسكو