للمرة الثانية في أقل من ربع قرن يقف زعيم فلسطيني على منبر يراه فيه ويسمعه العالم كله وهو مسكون بحلم الدولة الفلسطينية. في المرة الأولى أعلن عرفات قيام دولة فلسطين بمناسبة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 في زخم "انتفاضة الحجارة" الفلسطينية التي بدأت مع نهاية 1987. وبالأمس القريب وقف عباس على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي يعلن أنه قدم طلباً لانضمام فلسطين كدولة كاملة العضوية إلى الأمم المتحدة. في الحالة الأولى تم الإعلان من طرف واحد بما يتناسب مع المناخ النضالي الذي كان الشعب الفلسطيني يعيش فيه، ثم توالت الاعترافات الدولية بالدولة المعلنة، ولكن تطورات الأوضاع في المنطقة، وبصفة خاصة الغزو العراقي للكويت في 1990 والموقف الفلسطيني الملتبس منه، جعل الدولة الفلسطينية الناشئة تدخل لاحقاً في غياهب سلسلة من الأنفاق حتى وصلنا إلى اتفاقية أوسلو بما لها وما عليها في عام 1993. أما الحالة الثانية فقد اتسقت مع ما آلَ إليه النضال الفلسطيني من اعتماد شبه كلي على أسلوب التفاوض والمقاومة السلمية، والتحرك في إطار الشرعية الدولية، ففي هذه المرة تعين على الرئيس عباس أن يبدأ تحركه من منبر يفترض فيه أنه يمثل الشرعية الدولية، على عكس الزعيم عرفات الذي أعلن الدولة الأولى من طرف واحد أمام منبر فلسطيني. لا ينتظر أي محلل يتابع شؤون الصراع العربي- الإسرائيلي عامة والفلسطيني- الإسرائيلي خاصة أن تحدث هذه الخطوة تغييراً جذريّاً على الأرض، بمعنى أن تقوم فعلاً دولة فلسطينية على الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ 1967 بما فيها القدس الشرقية، بل إن أبحديات هذا الصراع وواقع الأمم المتحدة وأجهزتها يشيران إلى أن الطلب الفلسطيني لن يمر من مجلس الأمن أصلاً بسبب حق الاعتراض الذي تتمتع به الولايات المتحدة في المجلس، والتي لم تدعْ مجالاً لأدنى شك في أنها سترفض طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة. ومع ذلك تتقدم السلطة الفلسطينية بهذا الطلب لأكثر من سبب من أهمها فضح المواقف الإسرائيلية والأميركية من الحقوق الفلسطينية، وإثبات التأييد العالمي واسع النطاق لهذه الحقوق، والاتجاه بعد رفض طلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين في مجلس الأمن إلى الجمعية العامة التي يحظى فيها الطلب الفلسطيني بأغلبية كبيرة تمكن من إضفاء "وضع الدولة المراقبة" على فلسطين بما يتجاوز وضع "المنظمة المراقبة" الذي تتمتع به منظمة التحرير الفلسطينية حاليّاً في الأمم المتحدة، ولعل هذا بالتحديد هو ما يخيف إسرائيل، لأن فلسطين بموجب وضع "الدولة المراقبة" ستنضم إلى منظمات الأمم المتحدة بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية التي يمكن أن تسبب لإسرائيل متاعب لا حصر لها مع الرأي العام العالمي وعديد من الدول، بل وربما مع قطاعات من الرأي العام والقوى السياسية في إسرائيل ذاتها. وربما لهذه الأسباب وغيرها ولدواعٍ انتخابية فيما يتعلق بالرئيس الأميركي بُذلت جهود مستميتة لإثناء عباس عن الإقدام على طلب عضوية الأمم المتحدة، غير أن جعبة أنصار إسرائيل بدت خاوية من أية إغراءات يمكن أن تخدع الفلسطينيين مجدداً، وينطبق الحكم نفسه على إسرائيل ذاتها، إذ بدأ الجميع يعزفون تلك النغمة النشاز: نعم لدولة فلسطينية ولكن بشرط أن تنشأ من خلال التفاوض، وكأن الشرعية التي تمنحها الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذه الدولة لا تكفي، مع أنها كانت كافية لقيام دولة إسرائيل في 1948 بموجب قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة في 1947. ونعلم جميعاً القصة المملة للمفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، على الأقل منذ توقيع اتفاقية أوسلو في 1993، التي تقوم على أركان لا تتغير بتغير الحكومات الإسرائيلية والرئاسة الأميركية محاولة ترجمة الاحتلال العسكري للضفة الغربية وقطاع غزة إلى واقع قانوني من خلال اتفاقيات إملاء على الجانب الفلسطيني -خلق واقع جديد في تلك الأراضي، وبالذات في الضفة الغربية، يقوم على أساس التهامها وتغيير هويتها من خلال عملية الاستيطان المكثف المتسارع، والاعتماد على ثبات التأييد الأميركي للمواقف الإسرائيلية أيّاً كانت بسبب قوة اللوبي الصهيوني في الساحة السياسية الأميركية وتأثيره فيها. وعلى سبيل المثال نذكر أن ربط استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان هو في الأصل مقترح أميركي أخفقت الإدارة الأميركية الحالية في وضعه موضع التطبيق، فما كان منها إلا أن استدارت ببساطة وعادت لتأييد الموقف الإسرائيلي "وتفهمه"، وذلك بعد أن رأت الآثار الضارة التي يمكن أن تحدث للرئيس الأميركي الحالي في معركة إعادة انتخابه. وهكذا تريد إسرائيل، بتأييد أميركي ومن اللجنة الرباعية ومن الاتحاد الأوروبي، أن يمضي الفلسطينيون في المفاوضات إلى الأبد، فإما أن يستسلموا لرؤاها وأطروحاتها، وهو رابع المستحيلات لأن هذه الرؤى والأطروحات لا تعطي الفلسطينيين إلا فتاتاً تستطيع إسرائيل أن تعصف به في أية لحظة، وإما أن يرفض الفلسطينيون التصور الإسرائيلي للتسوية كما يفعلون حاليّاً، ولكن من دون أن يكونوا قادرين على تغييره، ومن ثم تبتلع إسرائيل معظم ما بقي من الأراضي الفلسطينية، ومعها الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. ولمثل هذه المؤامرة تصمد القيادة الفلسطينية ومن خلفها قوى سياسية وشعبية يُعتد بها، ومن المهم في هذا السياق أن نتذكر أن من يقود "النضال" الفلسطيني في هذه اللحظة هو عباس الذي أسقط الكفاح المسلح من اعتباره تماماً، ولم يرَ سوى المفاوضات آلية وحيدة للتسوية، وهذه هي النتيجة: صفر كبير جعل الرجل يصمد للضغوط التي حاولت إثناءه عن التقدم بطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، بل وللتهديدات غير النزيهة بقطع المعونة الأميركية عن السلطة الفلسطينية، التي تقترب سنويّاً من نصف مليار دولار، ناهيك عن تهديد إسرائيل بوقف تحويل الضرائب الجمركية المستحقة للسلطة الفلسطينية بما لا يقل عن مليار دولار في هذا العام. ليس الأمر إذن بحاجة إلى مجرد تصفيق لخطوة عباس والقيادة الفلسطينية، ولكن الحاجة ماسة إلى دعم مالي حقيقي للسلطة الفلسطينية في مواجهة هذه الضغوط السافرة، وليس في الأمر أدنى صعوبة إذا تكاتفت الدول العربية والإسلامية في هذا الاتجاه. غير أن عباس لا يواجه الضغوط الخارجية وحدها، وإنما يواجه أيضاً رفض عدد من قادة الفصائل الفلسطينية "الثورية" وعلى رأسها "حماس" لهذه الخطوة، وهي وجهة نظر ألفناها طويلاً لا تستطيع التفرقة بين الاستراتيجية والتكتيك. صحيح أننا لا نوافق بالضرورة على استراتيجية عباس لتأسيس دولة فلسطينية، غير أن الخطوة الأخيرة التي اتخذها في الأمم المتحدة هي من قبيل "التكتيك" الذي يتعين علينا أن نحدد بموضوعية ما إذا كان قد أضر بالقضية الفلسطينية في شيء، ورأيي المتواضع أنه بالعكس مثَّل إضافة لهذه القضية في الساحة العالمية لا تقيد من قريب أو بعيد أية رؤية فلسطينية سليمة لمستقبل الصراع. وأخيراً وليس آخراً فإن الشعب الفلسطيني مطالب خاصة في زمن "الربيع العربي" بأن يكون أكثر حضوراً في الساحة الفلسطينية سواءً لتصحيح ما يجري داخلها أو لدعم النضال ضد إسرائيل من أجل انتزاع حقوقه. وهذه قصة أخرى.