"إن ليبيا الجديدة تتعرض لتحديات ضخمة، لكنها تواجهها بأدوات جديدة وإيجابية"، ذلك ما قاله رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا، أيان مارتين، عشية البدء ميدانياً في نشر موظفي بعثته يوم الخميس الماضي، حيث أعلن للصحفيين من المقر الرئيسي للأمم المتحدة بنيويورك، أن التركيز الأساسي للبعثة سيكون على مساعدة ليبيا من أجل إعادة الأمن وإجراء الانتخابات وضمان العدالة. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت يوم الاثنين اختيار الدبلوماسي البريطاني أيان مارتين رئيساً لبعثتها الجديدة في ليبيا، بعد أسبوع واحد على صدور القرار الدولي بتشكيل وإرسال بعثة دعم دولية إلى ليبيا للمساعدة على إعادة إعمارها. وقد صوت المجلس في السابع عشر من سبتمبر الجاري على قراره رقم 2009 الذي يفوض أمين عام الأمم المتحدة بتشكيل وإيفاد بعثة إلى ليبيا لمساعدتها على النهوض في المجالات الحيوية. وبموجب القرار فإن البعثة ستشارك في استعادة الأمن والنظام العام، وتعزيز مبادئ سيادة القانون، والدفع بجهود صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات، بالإضافة إلى ترسيخ مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان، والإفراج عن الأرصدة الليبية المجمدة في الخارج. وكان تعيين مارتين في هذا المنصب متوقعاً حتى حين كانت البعثة مجرد فكرة تنوي بريطانيا تقديمها لمجلس الأمن، حيث كشف مارتين -بوصفه مستشاراً لدى أمين عام الأمم المتحدة حول ليبيا- للصحفيين يوم العاشر من سبتمبر الجاري عن مشروع قرار يتضمن إرسال بعثة أممية إلى ليبيا مهمتها المساعدة على تنظيم الانتخابات وصياغة الدستور. وقال مارتين إن اقتراح إرسال البعثة تبناه أيضاً بان كي مون في رسالة وجهها إلى مجلس الأمن، وأنه لقي تجاوباً من أعضاء المجلس، وأن المهمة الأساسية للبعثة ستكون المساعدة على تنظيم الانتخابات وتقديم المشورة الفنية للحكومة الليبية. وهكذا فقد كان مارتين على علاقة وثيقة بملف البعثة الأممية إلى ليبيا (أونسميل)، منذ أن كانت مجرد فكرة، إلى أن أصبحت جهازاً تنفيذياً له مسماه وشكله ومهامه. لكن من هو مارتين؟ وماذا في ملف خبراته السابقة مما يمكن التعويل عليه في مهمته الحالية في ليبيا؟ يعد مارتين أحد الدبلوماسيين الدوليين المرموقين، إذ سبق له أن عمل مبعوثاً للأمم المتحدة في عدد من مناطق النزاعات والحروب، مثل تيمور الشرقية وبوروندي وفلسطين والنيبال وهايتي، كما شغل منصب الأمين العام لمنظمة العفو الدولية، قبل أن يصبح مبعوثاً لأمين عام الأمم المتحدة لدى المجلس الانتقالي الليبي في يوليو الماضي. وبالتركيز على السجل الدبلوماسي والحقوقي لمارتين نجد أنه عمل أميناً عاماً لمنظمة العفو الدولية بين عامي 1986 و1992، أي خلال نهاية الحرب الباردة حين كان للمنظمة دور كبير في التشهير بالممارسات السلطوية للأنظمة الشمولية في المعسكر الشيوعي. ثم أصبح نائب المدير التنفيذي لبعثة الأمم المتحدة لدى منظمة الدول الأميركية المدنية في هايتي بين عامي 1993 و1994، وهي فترة مضطربة من تاريخ هايتي شهدت خلالها صعود آرستيد إلى سدة الحكم بانقلاب "انتخابي" ثم سقوطه بانقلاب عسكري، شنّ على إثره حرب عصابات بدعم أميركي أعاده إلى الحكم في عام 1994. وبداية من العام التالي عمل مارتين رئيساً لبعثة الأمم المتحدة الميدانية لحقوق الإنسان في روندا حينما حدثت مجازر رهيبة نفذتها مليشيات من قبيلة الهوتو ضد قبيلة التوتسي. بعد ذلك عمل مستشاراً خاصاً في عمليات حقوق الإنسان الميدانية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1998، ثم ممثلاً لرئيس مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في البوسنة والهرسك بين عامي 1998 و1999. وفي نفس العام تم تعيينه ممثلاً خاصاً لأمين عام الأمم المتحدة في تيمور الشرقية، ثم رئيس بعثة الأمم المتحدة في تيمور الشرقية حتى مطلع العام 2000، ليتم تعيينه نائب الممثل الخاص لأمين عام الأمم المتحدة لدى إثيوبيا وإريتريا. وبعد أشهر قليلة على تأسيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية، التابع لمنظمة العفو الدولية، والذي يتخذ من واشنطن مقراً له، في خريف عام 2001، أصبح مارتين رئيساً للمركز، وبقي على رأسه إلى أن عين ممثلاً لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان في نيبال عام 2005، وفي العام التالي أصبح مجدداً المبعوث الخاص لأمين عام الأمم المتحدة إلى تيمور الشرقية، ثم مبعوثه لدعم عملية السلام في نيبال بين عامي 2007 و2009، حينما تحولت تلك الدولة الصغرى بشبه القارة الهندية من ملكية إلى جمهورية. بعد ذلك عينته الأمم المتحدة رئيساً لمكتبها في قطاع غزة ومسؤولاً عن التحقيق في بعض الحوادث، قبل أن تختاره مستشاراً لدى أمينها العام حول ليبيا عقب اندلاع الحرب الداخلية في ذلك البلد الغني بثرواته النفطية، وما فُرض حينها من عقوبات أممية على نظام القذافي وحظر جوي وضربات نفذها سلاح طيران الأطلسي، أضعفت النظام وفتحت الطريق بصعوبة كبيرة أمام قوات الثوار إلى طرابلس حيث يقع مقر القذافي بباب العزيزية المحصن، قبل سقوطه في العشرين من أغسطس المنصرم. وبذلك السقوط بدأت مرحلة جديدة بات لزاماً على ثوار ليبيا التعامل معها بمنطق جديد وروحية مختلفة، كما هو الشأن أيضاً بالنسبة للأمم المتحدة التي شاركت بمواقف وقرارات ثمّنها الليبيون لصالح طموحاتهم في الحرية والديمقراطية والرفاه. وأخيراً قررت الأمم المتحدة إدماج مقارباتها حول الوضع الليبي الجديد في آلية سمتها "بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا" (أونسميل)، برئاسة إيان مارتين، والتي بدأت عملها، الخميس الماضي، من خلال فريق سياسي صغير في طرابلس وبنغازي يضم 20 موظفاً، سيزيد عددهم إلى 200 موظف خلال الأسابيع المقبلة. وقد أعلن مارتين أنه سيعود إلى ليبيا هذا الأسبوع لمواصلة إنشاء البعثة، وأن فريقه سيعمل مع المجلس الوطني في عدد من المجالات مثل الانتخابات والأمن والعدالة. لكن تبقى ثمة تحديات كثيرة وكبيرة تواجه الجميع؛ فعلاوة على التحدي الأمني الذي لا تملك البعثة ما يكفي من الوسائل لمواجهته، فإن بعض الشكوك في دور البعثات الأممية وتجاربها السابقة في دول أخرى، قد تمثل صعوبة إضافية أمام بعثة مارتين يتعين عليه أن يبدد ما يتصل بها من هواجس و"أوهام" لدى الجانب الليبي! محمد ولد المنى