مرة أخرى تغرق أميركا في مستنقع إسرائيل، وتستمر في مواقفها التي تجعلها تصطف وبشكل نافر معها ضد كل العرب والمسلمين. ومرة أخرى يخيب أوباما آمال العرب والمسلمين بعد أن رفعوا سقف توقعاتهم بخطبه التصالحية وواقعيته وابتعاده عن لغة التهديد والوعيد. ولكن قفازات أوباما الحريرية ولغته الناعمة وخطبه المنمقة لم تعد مقنعة ومجدية. خطابه في الأمم المتحدة وتهديده بإشهار "الفيتو" في وجه طلب السلطة الفلسطينية عضوية فلسطين في الأمم المتحدة كان هو القطرة التي أفاضت الكأس. واصطفاف الدول الغربية مع واشنطن وضبابية مواقفها تجاه الطلب الفلسطيني لاشك يضع الغرب في أزمة أخلاقية وازدواجية معايير، ويعري انعدام مصداقية وتشدق الغرب بحق الشعوب في تقرير المصير، خاصة إذا ما قارنا ذلك مع سهولة ويسر وإجماع الشرق والغرب والدول الكبرى والصغيرة على قبول عضوية دولة جنوب السودان الوليدة هذا الصيف، في مقابل التعنت والتذبذب وحتى تهديد أوباما باستخدام "الفيتو" كحل أخير، ضد انضمام دولة فلسطين. وكأن الخيار الأفضل هو ممارسة الضغوط على دول صغيرة وضعيفة في مجلس الأمن مثل البوسنة والغابون، وممالأة الدول الأوروبية الأربع في مجلس الأمن بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال -على رغم كشف استطلاعات الرأي أن أغلبية مواطني تلك الدول تؤيد قيام دولة فلسطينية- ومعها كولومبيا، بالامتناع عن التصويت، للحيلولة دون حصول طلب عضوية فلسطين على 9 أصوات، وتجنب خيار "الفيتو" المكلف. وهذا التكتيك مزعج ومحبط معاً، وخاصة أن ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تدعم عضوية فلسطين في الأمم المتحدة. إن الوقوف ضد الطلب الفلسطيني لنيل عضوية كاملة في الأمم المتحدة من قبل الدول الكبرى والفاعلة في النظام العالمي يشكل سقوطاً أخلاقيّاً وازدواجية في المعايير، ناهيك عن كون أوباما يجد نفسه في وضع صعب فهو صاحب رؤية "حل الدولتين"، وهو من اشتبك مع نتنياهو حول المستوطنات وحدود 1967 ثم تعرض لمحاضرة سمجة من نتنياهو على الهواء مباشرة في مايو الماضي في البيت الأبيض "حول حدود 1967 التي لا يمكن لإسرائيل الدفاع عنها". وهذا ما جعل مسؤولين أميركيين كباراً يعبرون عن استيائهم وعلى رأسهم وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس (قبل ترك منصبه في الصيف الماضي) الذي لا تُعرف عنه معاداة إسرائيل. وقد كتب جيفري غولدبرغ في 6 سبتمبر الماضي ضمن تقرير لوكالة "بلومبيرج" نقلًا عن "غيتس" وصفه لإسرائيل بأنها "حليف غير وفيّ وجاحد". مؤكداً أن غيتس أوضح الموقف لأوباما الذي يهدد اليوم باستخدام "الفيتو" لمنع انضمام فلسطين كعضو كامل العضوية، متناسيّاً أن إسرائيل قامت أصلاً وحصلت على شرعيتها بقرار من مجلس الأمن عام 1948. وأن إسرائيل ليست حليفاً غير وفيّ فقط، ولكن سياسة نتنياهو تزيد من عزلتها أيضاً. وأن إسرائيل ستواجه مشاكل ديموغرافية إذا ما أبقت على احتلالها للضفة الغربية. وينقل تقرير "بلومبيرج" أن انتقادات "غيتس" لموقف إسرائيل وانعكاسه سلباً على الولايات المتحدة، حظيت بدعم وموافقة المسؤولين الأميركيين وخاصة وزيرة الخارجية كلينتون. وكان نائب الرئيس "جو بايدن" ومدير عام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وقائد القوات المركزية الأميركية السابق ديفيد باتريوس، قد اتهما إسرائيل العام الماضي بتهديد مصالح أميركا وتعريض حياة جنودها للخطر. ومع ذلك نرى ونتابع بكثير من الحرقة الموقف الأميركي الداعم لإسرائيل بشكل مستفز للعرب والمسلمين، ونرى الطريقة التي تنحاز بها الدول الكبرى لكيان الاحتلال. ثم يتساءل الغرب والأميركيون بالتحديد: "لماذا يكرهوننا؟!". لقد تابعنا مساء يوم الجمعة الماضي كلمة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، في خطاب عاطفي ووجداني هو الأهم في حياته السياسية، وفي موقف تاريخي بعد أن قدم رسميّاً طلب انضمام فلسطين عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة، ورفع تمثيلها من مراقب لتصبح عضواً. وتابعنا التصفيق والاستقبال الحافل لعباس من قبل وفود الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة في دور انعقادها السادس والستين، وقوله إن ساعة الربيع الفلسطيني قد دقت، وكذلك دقت ساعة الاستقلال، وإن "الربيع الفلسطيني يتزامن ويواكب الربيع العربي وينهي أطول وآخر احتلال في العالم. بعد 63 عاماً حان وقت انتهاء معاناة الفلسطينيين... كفى كفى كفى.. ". أما خطاب نتنياهو الذي أعقب خطاب عباس، فقد كان على عكسه، حيث أتى فوقيّاً وخشبيّاً، وبدا وكأنه أستاذ يحاضر على طلبته في التاريخ والجغرافيا والسلام والإرهاب. وخلط الأوراق وحذر من الإسلام السياسي والتطرف الإسلامي وإيران. وانتقد حتى الأمم المتحدة واتهم الفلسطينيين برفض السلام والتفاوض! وكان خطاباً مليئاً حقاً بالمغالطات، حيث حمل الفلسطينيين مسؤولية تعثر السلام، وحوّل الضحية إلى جلاد، وإسرائيل إلى ضحية. كما أصر نتنياهو في خطابه على أن الفلسطينيين هم من يمنع استئناف المفاوضات في قلب فج منه للحقائق، وخاصة أن إسرائيل هي من يرفض السلام، وتتواطأ معها اللجنة الرباعية في تغييب أي مرجعية للمفاوضات في التفاوض وعلى رأسها القبول بحدود عام 1967 وقد قال عباس في خطابه التاريخي إن الفلسطينيين وافقوا على إقامة دولة فلسطين على مساحة 22 في المئة من فلسطين التاريخية. وذلك بعد أن عرض عليهم ضعف تلك المساحة ورفضوها عام 1947 بعد قرار التقسيم من قبل الأمم المتحدة التي اتهمها نتنياهو في خطابه بالقاعة السوداء لوقوفها ضد إسرائيل! على رغم الـ40 "فيتو" ومن عرفته من حماية أميركية لإسرائيل. وعلى رغم رمزية العضوية والنفخ فيها وتهديد الكونجرس الأميركي بتجميد الدعم المالي الذي تقدمه أميركا للسلطة الفلسطينية والمقدر بخمسمائة مليون دولار إذا ما لجأت إلى الأمم المتحدة لطلب العضوية، إلا أن مناورات الموقف الإسرائيلي والدعم الأميركي والأوروبي والانحياز الغربي لمصلحة إسرائيل في حقبة الربيع العربي وعصر الإعلام الرقمي وتأثير القوة الناعمة، كلها تكرس اقتناع العرب بالانحياز وازدواجية الموقف الغربي. وفي المحصلة، على رغم الصبغة العربية في الأمم المتحدة لهذا الشهر، بترؤس لبنان لمجلس الأمن ورئاسة قطر للجمعية العامة للأمم المتحدة لهذه الدورة، إلا أن المنظمة الدولية لا تزال مؤسسة يهيمن عليها الكبار ومن يدعمونهم، وإن سمحوا للدول الصغيرة بالجلوس على رأس الطاولة، فهم "المايسترو" ومن يقرر الأجندة والمسار. لقد باتت الحاجة ملحة لإصلاح هذه المؤسسة لتحقق الأهداف التي قامت من أجلها قبل 63 عاماً! وحتى لا يحاضر علينا رئيس أميركي في المستقبل ضد رؤيته ومبادئه ووعوده ويقوم باستخدام "الفيتو" ضدها! Summary محمود