في الوقت الذي تستعد فيه اللجنة المشكلة لخفض العجز المالي المعروفة في أميركا باللجنة الكبرى يتعين على أعضائها الإثني عشر الانتباه إلى ما كان الآباء المؤسسون سيقومون به لتقليص العجز الكبير في الموازنة الذي تعاني منه الولايات المتحدة في هذه المرحلة، والأساليب التي كانوا سيلجأون إليها للحد من النفقات الفيدرالية. ولو تصور أعضاء اللجنة لسارعوا فوراً إلى سحب جميع القوات الأميركية من العراق وأفغانستان وخفض الوجود العسكري الأميركي في الخارج، وليس ذلك لانعدام خيارات أخرى لتقليص النفقات وفق ما حدده اتفاق الكونجرس والبيت الأبيض في 1,5 تريليون دولار على مدى العقد القادم، بحيث تتوفر خيارات متعددة تتراوح بين الاستحقاقات الاجتماعية وأموال الدعم الزراعي وتلك المقدمة للشركات، بل لأن الأميركيين منشغلون أيضاً بالتكلفة العالية للإمبراطورية العسكرية الأميركية المنتشرة في كل مكان تقريباً. وكما يوضح ذلك الكاتب "تشارلز بينا" حتى قبل أن تذهب الولايات المتحدة إلى الحرب في العراق وأفغانستان كان ربع القوات المسلحة الأميركية، أي حوالي 250 ألفاً من أصل مليون رجل وامرأة يخدمون في الجيش الأميركي، منتشرين في جميع أنحاء العالم. فبالإضافة إلى العراق وأفغانستان توجد منشآت عسكرية أميركية في بلدان عديدة تشمل أستراليا وبلغاريا وألمانيا واليونان وجرينلاند وإيطاليا واليابان وكوسوفو وقرغيزستان وهولندا والفلبين والبرتغال وقطر وسنغافورة وكوريا الجنوبية وإسبانيا وتركيا وجزر "دييجو جارسيا" التابعة لبريطانيا في المحيط الهندي، وهو انتشار واسع وباهظ التكلفة. وبحسب إحصاءات مصلحة الأبحاث في الكونجرس تكلف الحروب في أفغانستان والعراق وليبيا دافع الضرائب الأميركي حوالي 169 مليار دولار سنويّاً، أي ما يناهز 4,4 في المئة من النفقات الفيدرالية، وبهذا المعدل من الإنفاق السنوي ستتضاعف التكلفة لتصل على مدى عقد من الزمن إلى 1,7 تريليون دولار، ولذا فإن إنهاء هذه التدخلات الخارجية من شأنه وضع حد للعجز الأميركي بأكثر مما تنوي لجنة تقليص العجز القيام به، بل أكثر من ذلك سنوفر على أنفسنا سقوط ضحايا أميركيين في تلك الحروب المتعددة واستعادة سمعة أميركا كمنارة للحرية والعدالة في العالم. ويمكن أيضاً الإشارة إلى مزيد من الفوائد المرتبطة بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في الخارج وعلى رأسها كما أوضح "روبرت هيجز" الحد من التوسع الحكومي الذي عادة ما يأتي مترافقاً مع الحروب، وذلك حتى في الميادين غير المرتبطة بالحرب، فبعد انتهاء الصراع يقول "هيجز" لا ترجع الحكومة أبداً إلى حجمها الأول وتظل متضخمة. ولعل المثال الأبرز على ذلك وزارة الأمن الداخلي التي أنشئت لتعزيز التنسيق بين 22 وكالة استخبارية أرادت إدارة بوش أن تعمل تحت مظلة موحدة بعد هجمات 11 سبتمبر، ولكن حتى بعد مرور عقد على تلك الهجمات تحولت الوزارة إلى مكان مترهل بيروقراطيّاً بضمها لأكثر من 230 ألف موظف، وقد وصف المعلق القانوني "جيفري روزن" الوزارة بأنها "حفرة مؤسسية لإلقاء المال وهي متعلقة أكثر بالرمز منها بالجوهر"، فالأساس في الوزارة الكبيرة هو ميزانيتها المرتفعة المقدرة بحوالي 43 مليار دولار في العام، وهو ما يدفع العديد من الأميركيين للتساؤل عن حق عما إذا كنا في حاجة إلى هيئة حكومية بهذا الحجم وبهذه التكاليف من دون أن نعرف على وجه الدقة مدى فعاليتها! ولذا يجب ألا نستغرب الرجوع إلى قلق الآباء المؤسسين من دور الحروب في مراكمة الديون وتضخيم الحكومة. ففي رسالة بعث بها "جيمس ماديسون" إلى "توماس جيفرسون" جاء فيها إنه "من بين جميع أعداء الحرية العامة تبقى الحرب أكثرها شراسة... فمنها تأتي الديون والضرائب، وهذه الأخيرة هي الوسيلة الأمثل لسيطرة الأقلية على الأكثرية... ولا تستطيع أمة الحفاظ على الحرية في ظل الحروب المستمرة"، وهو ما عبر عنه "جيفرسون" أيضاً في رسالة بعثها في عام 1801 إلى صديقه "ويليام شورت" قال فيها "إن السلام هو أهم مصلحة لنا وهو أفضل ما يبعدنا عن الديون". وبسماعنا لما كان يقوله الآباء المؤسسون نعرف لماذا يستحيل علينا اليوم تقليص العجز والديون بالاعتماد فقط على خفض البرامج الاجتماعية ووقف الدعم لقطاعات اقتصادية ما دامت الحروب هي أكبر مستنزف للموارد ومحرض على توسع الحكومة، ولمعالجة الأزمة المالية الكبرى التي تعاني منها أميركا حاليّاً يتعين على واشنطن إعادة جنودها إلى أرض الوطن، ذلك أن نعمة الحرية التي تفتخر بها أميركا لن تعود مجدداً إلا بإنهاء الولايات المتحدة لحروبها واستعادة جمهوريتها الدستورية التي تنص على حكومة محدودة. ديفيد ثيرو رئيس ومؤسس "المعهد المستقل" بأميركا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"