كيف يموت الناس في ساحات الإضطراب العربية؟... وأتساءل أيضاً: في تلك البلدان المتوترة كيف يخرج من باب بيته متأبطاً وطنه متيقناً من جاهزية كفنه، حاملاً أحلامه على أكتافه مستعداً لرصاصة مقتنص أحلام وأجساد يافعة لم تعرف غير الحزن لغة؟ كيف يتلقى الرصاص متأكداً من موته واثقاً أن خطوته نحو الجنة أقرب إليه من تراجعه نحو مخدعه؟ كيف رأى قصره مشيداً ونسي أن أمه تنتظره بفارغ قلبها وصبرها واحتمالها لحياه مؤلمة، هو فقط يجعلها قابلة للحياة، لكنه يغيب مؤثراً أن تعلق صورته على بوابة الوطن ذات حرية قريبه أقرب من مشاوير الطغاة وإصرارهم على غيهم؟ في هذه البلدان يموت الإنسان فرحاً بالتأكيد، لكن كيف تأكد أن الوطن يستحق كل هذه القرابين، وقربانه هو روحه الزكية الغالية على أم قالت له عينيها: اذهب وإن مت فإن الوطن أغلى منك، حتى وإنْ كنت أغلى مني ومن كل الدنيا ومافيها؟ كيف يتفق مع والدته على وداع ما يحب، وعلى مصالحة من يعرف قبل أن يلوح بمنديل عمره المضرج بالدماء؟ ماهو الوطن الذي يستحق كل هذا الموت بكل هذه السهولة وهذا الإصرار على تحريره من وقت قاس أبخسه حقه البسيط في الكرامة؟ هل الوطن أرض وبيت ورفاق وذكريات...أم هو حياه تعُاش بكامل العزة، أو الموت دونه بكامل العزة أيضاً؟ يا لهذه الأوطان الصعبة المعشوقة حده الموت من دون بطولات زائفة، أو إدعاء مراوغ... هؤلاء الذين يتساقطون كأوراق خريفية هشة وغضة الأعمار. لسان حال هؤلاء الناس في بلدانهم يقول: الوطن حكاية حب لا نعيها إلا عندما نرى أن هناك من يحاول سرقتها وتقطيع أوصالها، وتحويلها إلى سوبرماركت، كل مافيه قابل للبيع والمساومة والاستهلاك. فلا أحد يملك الوطن، إنه الحب المشاع لأهل الوطن فقط الصادقين في قناعاتهم بأن الوطن وحده غير قابل للبيع. إنه الشعب الذي ليس لديه ما يخسره، وهو الإنسان الذي لايعرف في الدنيا إلا وطنه ملاذاً وحكاية وجنة ترافق أحلامه. عندما غادر الإنسان بيته ودعه بنظرة أخيرة، واعتذر له بأنه ذاهب لوطنه بعد طول انتظار لم يكن يعرف أن وطنه احتل كل حياته وأنه عرض حياته بثمن بخس في مقابل أن يحيا الوطن. بماذا كان يحدث نفسه، وأي أمنية عذبة رافقته؟ وكيف استودع وطنه روحه وجسده وكل ما كان يحلم به؟ وهل كان القبر أرحب من سنون طوال كان لايعرف نفسه خلالها إلا من خلال الظلم وزهق الوجود ووأد الكرامة؟! في تلك البلدان يزداد عدد الضحايا، وتزداد الفجيعة، ويزداد الوطن شغفاً، وكأن الدماء هناك هي عنوان عشق لا منته وعربون صغير للحرية أن تأتي محملة بالورود بعد طول انتظار! وأقول طوبى لهؤلاء، وطوبى لشعب عقد العزم على الحياة أخيراً. وطوبى لأناس قرووا هجر الموت والاندفاع نحو قرار الحرية، فالوطن يستحق العناء والموت لأجله، ورفع لافتة "أحبك ياوطني مهما كان الثمن"! وهذا مافعله السابقون. ومايفعله اللاحقون بهم كل يوم. فما أغلى الأوطان...وما أصعب الحرية!