وأنا أشاهد في الصحف صور استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مؤخراً للسيد "تشانج قاولي" عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي في مدينة "تيان جين" في جمهورية الصين الشعبية والوفد المرافق له في زيارته الحالية للمملكة، عادت بي الذاكرة عشرات السنين إلى الوراء، حينما كانت المملكة أرضاً محرمة على ساسة الصين الشيوعية، وكان مجرد ذكر اسم الأخيرة جريمة نكراء، دعك من الاحتفاظ بصورة للمعلم "ماو" أو بنسخة من كتابه الأحمر الصغير- الذي تحول اليوم إلى مجرد هدية تذكارية يبتاعها السياح من أرصفة الشوارع في بكين وشنغهاي- أو امتلاك طابع بريد صيني يتغنى بإنجازات "ماو تسي تونج" ورفاقه. لقد تغير الزمن وتغيرت معها المحظورات والممنوعات إلى مسلمات ومسموحات. وهذه سنة التاريخ التي تقول "إنّ دوام الحال من المحال"! فالرياض التي ظلت على مدى عقود من الزمن تعادي بكين وتصف قيادتها بـ "الملحدة" ونظامها بالنظام الراديكالي المشاغب والمثير للقلاقل، خصوصاً في ظل دعمها العسكري لما كان يـُعرف بالجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج، إلى الحد الذي استنكرت فيه بشدة العدوان الصيني على الهند عام 1962، على الرغم مما كان يعتري العلاقات السعودية – الهندية وقتذاك من جفاء بسبب تماهي سياسات الزعيم الهندي الراحل "جواهر لال نهرو" مع سياسات عبدالناصر الثورية المؤججة لمشاعر الثورة والانقلاب ضد الأنظمة العربية الملكية في سنوات المد القومي من القرن المنصرم، كانت تعترف بجمهورية الصين الوطنية أو تايوان كممثل شرعي لكامل التراب الصيني، مع انفتاح واسع في المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية على الأخيرة. أما بكين فقد عملت المستحيل، لكن من دون نجاح يذكر، لاستمالة السعوديين وتليين مواقفهم إزاءها، بما في ذلك إصدارهم لبيانهم المعروف في عام 1955 بالوقوف إلى جانب المملكة ضد بريطانيا حول قضية "البريمي" على نحو ما ورد في صحيفة الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي الحاكم. وظلت الحالة على ما هي عليه من دون أدنى تغيير يذكر إلى أن أملت المصلحة الوطنية العليا للرياض تغيير مواقفها من النظام الصيني. وقد ساهمت عدة عوامل في حدوث التغيير التاريخي: أولها انتهاء حقبة ماو السوداء ووصول قادة جدد إلى رأس السلطة بسياسات انفتاحية تنبذ تصدير الثورة والإيديولوجية الماركسية والتدخل في شؤون الآخر، وثانيها الموقف الصيني المندد – لأسباب أيديولوجية واستراتيجية - بالتدخل السوفييتي في أفغانستان المتاخمة لحدود الصين من الشرق، وثالثها – وهو الأهم – حاجة الرياض للحصول على صواريخ بالستية لقوات دفاعها الجوي من أجل الردع وتفادي تداعيات الحرب العراقية – الإيرانية على أمنها واستقرارها وسلامة ترابها الوطني. وعليه فإن نقطة الانعطاف الرئيسية في العلاقات الصينية – السعودية بدأت في اللحظة التي توجه فيها الأمير "بندر بن سلطان" – سفير المملكة وقتذاك في واشنطن – إلى بكين في زيارة سرية في منتصف الثمانينيات من أجل إتمام صفقة الصواريخ المذكورة بقيمة إجمالية – يقال إنها بلغت نحو 3.5 بليون دولار. هذه الصواريخ التي لم يكن باستطاعة الرياض الحصول عليها من الولايات المتحدة في حينها بسبب اعتراض اللوبي الصهيوني داخل مراكز صنع القرار الأميركية. بعدها كرت سبحة الزيارات المتبادلة على أرفع المستويات ما بين مسؤولي البلدين، حاملة معها أو على هامشها سيلاً من التطورات التي تجسدت في إقامة علاقات دبلوماسية كاملة في 1990، وتبادل السفراء، وإنهاء الرياض لعلاقاتها القديمة مع "تايبيه"، وتنظيم كل بلد للمعارض التجارية والفعاليات الثقافية في عاصمة البلد الآخر، ناهيك عن ازدهار التجارة البينية بين البلدين وبلوغها أرقاما قياسية (ارتفع حجم التبادل التجاري من 290 مليون دولار في 1990 إلى نحو 5.1 بليون دولار في 2002، علما بأن نصيب الصين منه كان 1.67 ونصيب المملكة 3.43 بليون دولار). والمعروف أن هذه الجهود توّجت بتفضيل الرياض لشركة "سينوبيك" الصينية المملوكة للدولة على شركات غربية عدة لجهة منحها حق التنقيب والاستغلال لما في باطن صحراء الربع الخالي من ثروات الغاز الطبيعي، وذلك في 2004. والحدث الآخر الذي توّج الجهود المذكورة ودفع علاقات البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية تمثل في قيام العاهل السعودي لأول مرة برفقة وفد كبير بزيارة رسمية إلى بكين في 2006، وذلك ضمن جولة آسيوية له، علماً بأنه كان قد زار بكين في 1998 حينما كان ولياً للعهد، ناهيك عن الزيارة التي كان قد قام بها للرياض في 1999 الرئيس الصيني السابق "زيانغ زيمين". إن الدبلوماسية السعودية تولي اليوم اهتماماً متزايداً بالصين لما تمثله من ثقل على الساحة الدولية، ولا سيما بعد أن برزت الأخيرة كثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة التي يتعرض اقتصادها حالياً لضغوط هائلة. كما أن أحد أسباب الاهتمام السعودي بالصين مرده احتلال الأخيرة لمرتبة أكبر مستوردي النفط الخام في العالم. والنفط هنا يلعب دوراً محورياً لجهة جذب بكين نحو لعب دور إيجابي في قضايا منطقة الخليج الأمنية. ومن هنا لم تأت من فراغ دعوة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمر الأمن الخليجي، الذي انعقد في 2004 بالمنامة، والذي شدد فيها على ضرورة إشراك الصين، ومعها الهند، في أية مشاريع أو صيغ أمنية خاصة ببحيرة الخليج العربي. وجملة القول إن كل الظروف اليوم مهيأة أكثر من أي وقت سابق للصين للقيام بالدور الذي يمليه عليها ما بلغته من بروز سياسي واقتصادي وتجاري وصناعي وعسكري لجهة المشاركة الفاعلة في أمن المنطقة التي تمدها بشريان الحياة، حماية للأخيرة ممن يتربصون بها، سواء أكانوا حلفاء تقليديين أو قوى إقليمية مشاغبة لا تريد لها السلام والاستقرار والأمن. وفي اعتقادي المتواضع أنه بقدر ما تبعد الصين نفسها عن الأنظمة الإقليمية الفاشية بقدر ما يتعزز مركزها في الخليج، وتضمن الحصول على الإمدادات النفطية التي هي بأمس الحاجة إليها من أجل مواصلة طريقها في دروب الازدهار والتفوق وبلوغ مرتبة القوة العالمية الأولى. أما التلكؤ والتردد لاعتبارات إيديولوجية أو عاطفية جمعتها يوماً ما ببعض الأنظمة الإقليمية فسوف يجلب لها الخسران والصداع على نحو ما حدث لها في ليبيا، مع ملاحظة فارق الحالة الخليجية عن الحالة الليبية من ناحية مخزون النفط والأسواق والقدرة الشرائية وفرص الاستثمار المربحة. د. عبدالله المدني محاضر وباحث أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين