من المعلوم أن نمط الوطنية الحديثة التي ظهرت في العالم العربي هي إعادة توالد محدود لأصل الوطنية الغربي. أكثر الصيغ الوطنية في الغرب تقوم على أفكار الحركات التي تسعى إلى التحرر، لذلك فإن الصيغ الوطنية الغربية تقوم بتعريف حدود السلطة وبتأكيد حماية حقوق المواطنين. ورغم أنها لم تكن مثالية عند بداية ظهورها، فإن تلك الوطنية التحررية كانت تمتلك الأسس النظرية التي ضمنت استمرارية وتقدم المراجعة الذاتية لنفسها كفكرة قابلة للعيش والاستمرارية والممارسة. لذلك قام مفكرون أميركيون بتطوير وتفسير مقنع للحركة الثورية في الولايات المتحدة، وصنفوها بأنها كفكرة تعتبر ذروة الفكر المعارض ونهوض النظرية السياسية في الغرب الرأسمالي. وكان تحليلهم للإسهام الذي قدمته الولايات المتحدة لمقولة الحكومة العادلة يكشف عن عمق فكري استمد من مصادر أوروبية، تم صقله لاحقاً في العالم الجديد بحيث أصبح جزءاً غير قابل للفصل عن الديمقراطية الغربية المعاصرة. لكن في البلاد العربية لم يحدث ذلك وبقيت الاستفادة من التجارب الغربية مبتورة أخرجت دولاً وطنية ذات ألوان فسيفسائية، فلاهي غربية واضحة المعالم ولاهي شرقية محددة الشكل والجوهر. غياب مثل هذه التقاليد يعني عند إدخال الأفكار السياسية وقيام الدول الوطنية الحديثة في البلاد العربية وجود علاقة مباشرة بين مبدأ سياسي تطور بوهن ونظم حكومية تواجه صعوبات في دمج مكوناتها في نظام مفتوح وعادل. وربما أن مشكلة الدولة الحديثة في البلاد العربية لا تكمن في المؤسسات التي أنشئت بل في الطريقة السطحية التي تم تشكلها على أساسها من خلال إدخال فهم جزئي منقوص للنماذج الغربية. وربما أن من المنطقي القول بأن الشعوب العربية لم تكن مهيأة لتقبل وطنية تحررية أوروبية الطراز بسبب محدودية التعليم في المراحل الأولى للتجربة وغياب التنشئة السياسية-المجتمعية، وربما محدودية الموارد المالية أيضاً. وبرغم أن ذلك يمكن أن يكون جزءاً من المشكلة، فإن عدم قدرة العرب على تغيير وجهات نظرهم وتطلعاتهم بطرق جذرية وخلال وقت قصير اتضح في كثير من الحالات كما حدث ويحدث الآن في أكثر من بلد عربي كما في تونس ومصر مروراً بسوريا واليمن والجزائر. لذلك الخطأ في تفسير المقولات المستعارة يعد عاملاً أكثر أهمية في فشل قيام دول وطنية ناجحة. وفي الوقت الراهن، تمثل كل من الوطنية العلمانية والثقافة الإسلامية بشقها السياسي مناهج متضادة لإعادة البناء السياسي-الاجتماعي، وتصادمها عبر السنين يعتبر مريراً وعدائياً. إن واحداً من تناقضات السياسة المعاصرة في البلاد العربية هو أن كلا الطرفين العلماني الواقعي والحركي الإسلامي يستمد أصحابه منظومة مبادئهم من مصادر غربية وإسلامية، والمحتوى التنظيري في كل معتقد سياسي يتضمن كل من النظرتين العلمية والطوباوية، بالإضافة إلى القضايا الخاصة بالقوة والسلطة والسيطرة على الثروات الوطنية التي لم تحل بعد. وخلاصة القول إن تواجد طروحات غربية وإسلامية في كلا النوعين من الآيديولوجيا المعاصرة يشير إلى حقيقة لا يمكن التخلص منها تتعلق بأن التنشئة السياسية والاجتماعية في البلاد العربية هي نتاج لتركيبة ثقافية معقدة طلاسمها مستعصية. وإذا كانت تركيبة من هذا القبيل حتمية، فإن المهمة المستقبلية الأساسية الملحة تتعلق بإيجاد طرق لجعل معظم المحتويات البناءة لكل تراث أجزاء، تكون بتناغم تركيبة حديثة. لقد استطاع العرب القيام بذلك في الماضي وكونوا دولة مترامية الأطراف بدءاً بأول خطوة قاموا بها باتجاه الخارج، ولا يوجد سبب لعدم قدرتهم على القيام بذلك في الحاضر والمستقبل.