هي دعوة ليست جديدة، تظهر كلما وقعت الأزمات، وشعر العرب بالحاجة إلى التغيير الجذري وليس مجرد الإصلاح. وهي ليست دعوة مثالية خيالية، فقد نشأ منذ البداية "مؤتمر تضامن شعوب آسيا وأفريقيا" إبان حركات التحرر الوطني. ولم يتغير الاسم حتى الآن على رغم ما أصاب هذه الحركات من نكوص وبعض الدول التي تمثلها بالتبعية والانضمام إلى الأحلاف الخارجية غربية كانت أو شرقية. لقد نشأت جامعة الدول العربية في ظروف تاريخية خاصة 1946، ما بعد الحرب العالمية الثانية، ورغبة الحلفاء في تجميع دول منطقة الشرق الأوسط في حلف إقليمي يرتبط بالغرب المنتصر. وقد دارت أهم معارك الحرب، العلمين، على أرض مصر. وكانت استئنافاً لمعاهدة "سايكس- بيكو" بعد الحرب العالمية الأولى لتقسيم المناطق التي كانت ولايات عثمانية إلى دول وطنية حديثة. وكان ذلك في مواجهة بداية حركة القوميين العرب قبل نهاية الحرب العالمية الأولى كرد فعل على السيادة العثمانية. وظلت حركة شعبية إلى أن استولى حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في سوريا والعراق وتحول إلى دولة. وظل المد القومي الشعبي العربي يتجلى في الشارع في كل مرة تعثرت فيها الدول أو لم تستطع المواجهة مع عدوها الخارجي. لم تستطع جامعة الدول العربية الصمود أمام العصابات الصهيونية في 1948. وانهزمت جيوش سبع دول عربية وعلى رأسها مصر أمام عصابات أقل تدريباً وعتاداً. وكانت النتيجة قيام ثورات الجيوش العربية ضد نظمها السياسية في سوريا 1951، ثم في مصر 1952، ثم العراق 1958، ثم اليمن 1964، ثم ليبيا 1969 ردّاً على هزيمتها في فلسطين 1948 وضد النظم التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وأصبحت حركة "الضباط الأحرار" طليعة الشعوب العربية المتطلعة للتحرر من السيطرة الداخلية أو من الاحتلال الخارجي الكلي أو الجزئي. تخشاها بعض الأنظمة كما تخشى الآن الربيع العربي الذي بدأ في تونس ثم مصر، وامتد إلى ليبيا واليمن وسوريا. واستقلت الجزائر بحرب شعبية كلفت مليون شهيد. واستقلت السودان ودول الخليج إثر معاهدات واتفاقيات. وبعد هزيمة يونيو -حزيران 1967 أعيد طرح السؤال من جديد: كيف تتحرر فلسطين؟ حرب جيوش كما حدث في 1948 وفي العدوان الثلاثي 1956 ثم في 1967 أم حرب شعوب؟ حرب دول أم مقاومة شعبية؟ وتكونت منظمة التحرير الفلسطينية في أوائل الستينيات لترفع شعار المقاومة الشعبية. فكما احتلت العصابات الصهيونية فلسطين في 1948 بالمقاومة الشعبية كذلك تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية استرداد فلسطين عن طريق المقاومة الشعبية. وما زال السؤال مطروحاً حتى الآن منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية: كبداية للدولة عند "فتح" أو استمرار المقاومة الشعبية عند "حماس". والسؤال ما زال مطروحاً عند الجميع، داخل جامعة الدول العربية وخارجها عندما تشتد الأزمة ويشعر العرب بعجزها في مواجهة العدوان الخارجي، الغزو الأميركي للعراق، الغزو الإسرائيلي لغزة أو العدوان الداخلي، العدوان العراقي على إيران ثم على الكويت. وأقصى ما يمكن طرحه عمليّاً هو إعادة النظر في ميثاق الجامعة وكأن القضية هي قضية مواثيق وقوانين ولوائح ونظم. ويقع خلاف: هل هناك مقر دائم للجامعة؟ هل من الضروري أن يكون الأمين العام من دولة المقر؟ هل التصويت بالإجماع أم بالأغلبية؟ هل يتم التدخل في شؤون الدول الأعضاء الداخلية أم أن لكل دولة سيادتها ولا يجوز التدخل في الشؤون الداخلية لأعضائها حتى لو ذبح النظام السياسي الآلاف من مواطنيها؟ هل سياساتها تتوقف على شخصية أمينها العام أم على دستورها؟ وكلها أسئلة تعبر عن نفس العقلية التي ترى أن سياسات الدول أو المؤسسات إنما تتم صياغتها وفقاً لرغبات زعمائها. والآن، وبعد اندلاع ثورات الشعوب العربية تقف جامعة الدول العربية ساكنة متفرجة وكأن الأمر لا يعنيها. وإذا كانت بعض النظم السياسية في الدول العربية قد تغيرت في تونس ومصر وليبيا، وفي طريقها إلى التغير في اليمن وسوريا فإنها لم تعد تمثل شعوبها. والشعوب العربية التي ثارت ليست ممثلة في جامعة الدول العربية لأنه من الصعب استبدال نظام جديد بنظام قديم. لم تعد بعض النظم السياسية الممثلة في جامعة الدول العربية ممثلة لثورات الجماهير العربية ومطالبتها بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالسؤال إذن: من تمثل جامعة الدول العربية؟ النظم السياسية العربية القديمة أم الثورات العربية الجديدة التي لم تتحول بعد إلى مؤسسات؟ إن ما تم من ثورات قُطرية داخلية من الطبيعي أن يترجم في التنظيمات القومية وإلا كفر الناس بالقومية ذاتها ورفضوا كل ما هو عربي الذي ظل عاجزاً ووقف ساكناً عما يحدث في الواقع العربي. والآن تقف جامعة الدول العربية على هامش الأحداث، صامتة عما يحدث في اليمن وسوريا. بل إن الأمين العام الجديد ذهب إلى سوريا وتحدث مع "السيد الرئيس" ووعده بالإصلاحات السياسية وكأنه رئيس دولة عربي. وإذا تدخلت فإنها تناشد الأمم المتحدة التدخل لإيقاف العدوان على المدنيين في ليبيا. وتترك حلف شمال الأطلسي يقوم بدورها. وتتكاثر المبادرات الغربية الإيطالية والفرنسية والأميركية والروسية لحل الصراع بين الثورات العربية القادمة وبعض النظم العربية المولية دون مبادرة عربية. بل إن الشقيقة الكبرى مصر، التي لها حدود مشتركة مع ليبيا، تقف ساكنة أمام ثورة الجماهير الليبية، وبنغازي ما هي إلا امتداد للإسكندرية، وأولاد علي على الحدود مصريون ليبيون. وهناك ملايين من المصريين في ليبيا يحتاجون إلى الحماية. وما كان أسهل من تدعيم الثوار في مقابل اعتماد النظام الليبي على المرتزقة الأفارقة. إن غياب جامعة الدول العربية من الساحة العربية ومن الوجود الفعال في الربيع العربي هو الذي يسمح بالتدخل الأجنبي لملء الفراغ. وقد أصبحت أميركا حاضرة في كل الاتجاهات، مع النظم القديمة ومع الثورات الجديدة. والتدخل الإسرائيلي جاهز لإجهاض الثورات الشعبية العربية بعد أن استطاع احتواء معظم الأنظمة السياسية العربية القديمة. والكل يتساءل وسط الأحداث عن الموقف الأميركي أو الموقف الغربي أو الموقف الإسرائيلي. ولا أحد يسأل عن الموقف العربي كما تمثله جامعة الدول العربية. لا تجسد جامعة الدول العربية كل الإمكانيات العربية المادية والمعنوية. المنطقة غنية بالنفط وبأموال النفط وباستثمارات النفط. وتمثل موقعاً جغرافيّاً بين الشرق والغرب. بها ممرات مائية دولية مثل قناة السويس، وخليج عدن، تسيطر بها على الملاحة في البحر الأحمر. كما أنها الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط والمدخل الغربي له من مضيق طنجة والمدخل الشمالي له من مضيق البوسفور في تركيا. سكانها ثلاثمائة وخمسون مليوناً، ومصر وحدها تزداد أكثر من مليون سنويّاً. وكان عبدالناصر ينادي في خطبه مئة وخمسين مليون عربي. ويقع الوطن العربي في دائرة أوسع وحلف إقليمي. تجعله الرابط بين أفريقيا وآسيا. وتعود جامعة الشعوب العربية لتلعب دور القاهرة- بلجراد- نيودلهي في الستينيات. وتكون مركزاً لعدم الانحياز الجديد في عالم أحادي القطبية. وتحيي الاتحاد الأفريقي، ومنظمات أميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا. وتجعل الغرب، أوروبا وأميركا، يعطيها الاحترام الكافي بدلاً من أن يقدم لها مشاريع من خارجها، الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لإدخال إسرائيل كعنصر تحديث في وسطها. وتجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة إذا ما فكرت في العدوان على العرب. وتجعلها تراجع سياساتها في الاستيطان واستمرار الاحتلال لأراضي سوريا ولبنان وفلسطين لأنها ستواجه شعوباً عربية وليس نظماً عربية، وجامعة شعوب عربية، وليس جامعة دول عربية. وعلى رغم أن الربيع العربي ما زال قُطريّاً إلا أنه عما قريب سينال المنظمات العربية الإقليمية، والتحول من جامعة الدول العربية إلى جامعة الشعوب العربية