يناقش هذا الكتاب، وهو مؤلَّفٌ من إسهامات بحثية عدة، مسألة حيوية ومثيرة للجدل منذ وقت، وقد تجدد طرحها عقب نشوب الأزمة المالية العالمية عام 2008، ألا وهي مسألة الحاجة إلى إصلاح جذري للنظام النقدي الدولي المستند إلى هيمنة الدولار الأميركي. فقد نتجت عن التحولات السريعة في بنية النظام الاقتصادي العالمي منذ التسعينيات، اختلالات مالية كبيرة، فتراكمت احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية لدى دول حققـت موازين مدفوعـاتها فوائض طـائلة. ثم جاءت الأزمة المالية العالمية الأخيرة، لتعزز الاعتقاد بأن النظام النقدي الدولي لم يعد أهلاً لتلبية متطلبات اقتصاد عالمي على درجة عالية من التعقيد والتكامل. وعليه فثمة حاجة إلى مقاربة من نوع جديد، يتعين أن تأخذ في الحسبان التطورات الأخيرة التي شهدها الاقتصاد العالمي. ومن هنا يتساءل الكتاب: هل سيكون النظام النقدي العالمي الراهن قادراً على الاستجابة للتحديات التي تثيرها تحولات النظام الاقتصادي العالمي؟ وفقاً لاستقراء جون نوجي في دراسته ضمن هذا الكتاب والمعنونة "عودة إلى مسألة عملة الاحتياطي النقدي"، فإن النظام النقدي الدولي الراهن، يتخذ من العملة محوراً له؛ إذ تتم تلبية الطلب على السيولة النقدية عن طريق عملة الاحتياطي النقدي الرئيسية؛ أي العملة ذات الاستخدام الأوسع في التعاملات الدولية، وهي التي تُتخذ "مستودعاً للقيم". ومن البدهي أن البلد الذي يصدر عملة الاحتياطي النقدي الرئيسية، يتمتع باقتصاد نشيط، وبأسواق مالية "عميقة"، وسندات وعقود تحظى بطلب خارجي قوي عليها. وما دامت الثقة هي العامل الداعم الأهم للنظام بمجمله، فإن هذا البلد ملزم بالمحافظة على القـوة الـشرائية لعملته، وعلى معدل تضخم يرضي الدول والأطراف التي تمتلك أرصدة وأصولاً من هذه العملة ذاتها. وكانت الولايات المتحدة الأميركية -بفضل استثماراتها الخارجية بالدرجة الأولى- قد حققت فوائض في حساباتها الجارية عقب الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك أصبح فيما بعد أمراً صعباً، فتحولت أميركا إلى مستورد للسلع والخدمات، وتحول سائر العالم إلى دائن لها؛ ومع ذلك -ولأن الدولار لم يواجه منافسة حقيقية- فإن الثقة لم تصبح قط مشكلة ملحة. ومن واقع تلك التجربة، يتفق المساهمون في الكتاب على أن أي نظام نقدي دولي يبنى بشكل صحيح، ينبغي أن تناط به وظيفتان رئيسيتان: أن يتيح لبلدان العالم إدارة الفائض والعجز في حساباتها الجارية، وأن يسمح لكل منها بمراكمة صافي مطالباتها المالية على الدول الأخرى. إن العملة الأميركية، بحسب ما توضحه دراسة جيانلوكا بنيجنو، "تحديات أمام الدولار من حيث هي عملة للاحتياطي النقدي"، ما تزال العملة الرئيسية للاحتياطي النقدي؛ فقد شكلت في عام 2008 نحو 60 في المئة من إجمالي احتياطيات العملات الأجنبية، ومع ذلك فقد ازداد حجم العجز في الحساب الجاري الأميركي؛ مما قوض ركائز الثقة لدى الأطراف المالكة لاحتياطيات كبيرة من الدولار، خاصة الصين التي تحتفظ بما قيمته تريليونا دولار. إن سنوات عدة ما تزال تفصلنا عن نهاية الدولار كعملة أساسية للاحتياطيات النقدية؛ ولا يرجع هذا، في تقدير بنيجنو، إلى غياب منافسين أقوياء فحسب، بل إلى أن الأزمة المالية العالمية أسهمت هي أيضاً في تقوية دور الدولار! وأياً تكن المحصلة النهائية، فليس خافياً على أحد، محدودية الخيارات القصيرة الأجل؛ كما تشدد كاثرين شينك في بحثها "دروس من التاريخ"، حيث تعرض لنا كيفية حلول الدولار تدريجياً محل الجنيه الاسترليني، بوصفه عملةَ احتياطيٍ نقدي، وذلك عبر مرحلة تحول طويلة (سبقت الحرب العالمية الثانية) نظراً لطبيعة النظام النقدي الدولي، والرغبة العالمية في الإبقاء عليه. أما النظـام الحالي فليس هناك إلا القليل جداً من الخيارات للخروج منه؛ أفضلها في نظر "شنيك" الانتقال جزئياً (أو كلياً) إلى نظامٍ لاحتياطي متعدد العملات. ومع أن بكين تفضل انتقالاً كهذا، فإنها تريد له أن يتم بشكل تدريجي؛ لتفادي انهيار قيمة احتياطياتها الحالية من الدولار. وفي هذا الخصوص يقترح جريجوري تشين ووانج يونج، في دراستهما المعنونة "نقاشات في الصين: نظام الدولار وما بعده"، خيارين اثنين، ربما يلبيان متطلبات بكين: أولهما يقوم على إنشاء نظام متعدد العملات، يشارك فيه كل من الدولار واليورو وعملة آسيوية إقليمية، بدور عملة الاحتياطي العالمي. أما ثانيهما فيرتكز على تدويل العملة الصينية (الرنمينبي). وهكذا يخلص الكتاب إلى أن النظام النقدي الدولي يمر بمرحلة تغير مستمرة، لكنه يستبعد تحقق الإصلاح المطلوب دفعة واحدة؛ ففي غياب توافق بين حكومات الدول الرئيسية، نجد أن الأصوات المطالبة بعقد صفقة كونية كبرى، تكون بمنزلة اتفاقية "بريتون وودز" جديدة، إنما تطلق دعوات ساذجة في أفضل وصف لها، وإن حدث التغيير فسيكون وليد عملية تكيف تتصاعد تدريجياً. لذا يتضمن الكتاب "استراتيجية قابلة للتطبيق"، ترمي إلى إدارة عملية التحول التدريجي، من نظام نقدي حالي لا يؤدي مهماته بشكل وافٍ ودقيق، إلى آخر أكثر استدامة وقدرة على أداء هذه المهمات. محمد ولد المنى ------ الكتاب: ما بعد الدولار... إعادة التفكير في النظام النقدي الدولي المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2011