ثمة أسئلة كثيرة يطرحها عصر الثورات العربية على العلاقات المستجدة بين العرب والغرب، فقد بدا من مفارقات التاريخ أن يشهد الوطن العربي سلسلة من الثورات الانقلابية العسكرية في الستينيات من القرن الماضي وشعارها الاستقلال من استعمار الغرب والتحرر منه، ثم بعد خمسين عاماً، يشهد الوطن العربي ثورات شعبية ضد أنظمته السياسية، ويطلب بعضها حماية الغرب السياسية أو التدخل العسكري المباشر، في انقلاب نفسي مريع على الثوابت يشير إلى تطور فاقع في العلاقة التاريخية بين العرب والغرب عامة. والسؤال الراهن: كيف يطمئن العرب إلى نوايا الغرب وأهدافه ومصالحه وهم يرون أن جل اهتمامه هو حفظ أمن إسرائيل والاطمئنان على مستقبلها، بينما يبدو اهتمامه بقضايا العرب شكليّاً وإعلاميّاً، وهو يعلو ويهبط بمقدار ما تتحقق مصالحه دون أن ينظر لاستحقاق أخلاقي أو إنساني. وحتى لو لم تكن إسرائيل وحدها الموضوع الشاغل للغرب، فثمة سؤال تاريخي يطرح ذاته: هل يستطيع الغرب مع انفتاح العرب عليه أن يخرج من أسطورة المسألة الشرقية، وأن يعيد النظر في موقفه التاريخي الاستعلائي على الشرق العربي المسلم والمسيحي معاً؟ وهل يستطيع الشرق العربي أن يتخلص من شعوره بالريبة والشك في كل ما سيأتي من سياسات الغرب، وأن يتناسى كل المآسي الراهنة التي خلفها في أرض العرب والمسلمين من أفغانستان إلى العراق فضلاً عن مأساة فلسطين التاريخية؟ وهل يمكن اعتبار التدخل العسكري الغربي لإنجاز ثورة ليبيا على نظام القذافي عربون عقد جديد بين العرب والغرب، والليبيون يعترفون بأهمية هذا التدخل في تحقيق النصر لثورتهم على رغم كل ما أثاره لديهم ولدى العرب من آلام وأحزان! فمن ذا يطيق رؤية "الناتو" يقصف مدناً عربية ويقتل مواطنين ليبيين كائناً ما كانت الذرائع؟ وهل سيحافظ الغرب على جعل تدخله إنسانيّاً خالصاً أم سيسعى إلى الغنائم كما علقت صحف بريطانية وفرنسية كشفت حقيقة النوايا بعد زيارة ساركوزي وكاميرون لليبيا وقد حرصا أن يكونا أول المهنئين بنصرهم قبل نصر الليبيين؟ وعلى رغم أن التدخل الغربي العسكري لنصرة ثورة ليبيا لم يكن الأول، فقد سبقه التدخل الغربي لتحرير الكويت بغطاء عربي، ثم التدخل لإسقاط صدام، وإذا كان التدخل الأول قد لقي قبولاً من غالبية العرب، فإن التدخل الثاني لم يجد هذا القبول بل واجهته الشعوب العربية بالرفض القاطع لأنه جاء غزواً للعراق وتدميراً لقوته، مما جعل العلاقة بين العرب والغرب تزداد سوءاً ولاسيما لكونها جاءت من تداعيات جريمة سبتمبر التي أعلن بعدها رامسفيلد حرباً تمتد إلى عشر سنوات ضد الإرهاب الذي أصر على كونه عربيّاً وإسلاميّاً، وها هي ذي السنوات العشر تنتهي بتدخل غربي عسكري (بطلب عربي) غطته الجامعة العربية التي حرص الغرب على أن تكون مظلته. لاشك في كون ما حدث واحدة من مفارقات التاريخ الكبرى، وستفهم الأجيال القادمة ما حدث بأنه على رغم كل ما يساق من مبرراته، كان تعبيراً مؤسفاً عن عجز عربي مطلق لم يتمكن فيه العرب من أن يفعلوا شيئاً لإنقاذ الليبيين الذين كادوا يتعرضون للإبادة سوى أن يباركوا النجدة العسكرية الغربية. ولابد لفهم المستقبل من قراءة التاريخ، وهو يدهشنا بتفاصيل الالتباس الإشكالي في علاقة العرب والغرب، فقد التقت الأضداد كلها بكل ما فيها من تناقضات في مسيرة تاريخية تمتد إلى ما قبل غزوات الإسكندر المقدوني التي رد عليها العرب والفرس معاً، ثم جاء الرد الغربي قاسيّاً عبر الغزو الروماني، الذي اجتاح الشمال العربي الإفريقي كله، وتوغل في الشرق العربي من جنوب حوران إلى بادية الشام، ولئن كان قد ترك لنا مسرحاً ضخماً في "بصرى الحرير" فإنه في المقابل ترك لنا "تدمر" مدينة مدمرة بالكامل لمجرد أن ملكتها "زنوبيا" حاولت أن تحرر سوريا ومصر وأن ترد على روما غزوها، ولئن كانت "زنوبيا" قد أخفقت فقد نجح العرب المسلمون بعد نحو ثلاثمائة عام برد حاسم، وتمكنوا من تحرير أرضهم وطرد الغزاة الغربيين من بلاد الشام ومن مصر ومن الشمال الإفريقي العربي كله، بل إنهم تطلعوا إلى رد أبعد حين توجهوا شمالاً نحو إسبانيا، وتطلعوا إلى العودة إلى الشام عبر اختراق أوروبا كلها مروراً بالقسطنطينية، ولكن هزيمتهم في "بواتييه" جعلت المشروع ينهار. وكان خروجهم من غرناطة آخر معاقلهم بداية رد غربي مريع، وصل إلى ذروته في الحروب الصليبية التي دامت نحو قرنين، ولم يستطع العرب وحدهم الرد عليها، فقد جاء الرد هذه المرة عبر الأتراك العثمانيين الذين حققوا الحلم الإسلامي في فتح القسطنطينية، وقد امتد الرد إلى أواسط أوروبا، ووصل إلى فيينا غرباً وشمل روسيا شرقاً. وبعد نحو أربعة قرون تمكن الغرب من رد قوي بدأ بالحملات على سلطنة عمان وبلدان الخليج العربي من قبل البرتغاليين ثم توغل البريطانيون والهولنديون في سواحل الخليج، ثم كانت حملة نابليون على مصر رداً ضمنيّاً على رغم أنه حمل خطاباً وديّاً ومظهراً علميّاً، ولكنه سرعان ما تكشف في حصار عكا عن رغبة نابليون تحقيق حلم معاكس لحلم المسلمين هو العودة إلى باريس عن طريق الشام والأناضول. وكان هم نابليون أن يعيد احتلال فلسطين لصالح الصهيونية، وقد هزمه الفلسطينيون في عكا. ولكن مرحلة الاستعمار الغربي عادت سريعاً إلى الجزائر وتونس والمغرب العربي، وسرعان ما وصل الاحتلال الغربي إلى مصر والعراق وبلاد الشام، ولم يستطع العرب تحقيق رد على هذا الاستعمار بأكثر من التحرر منه بعد أن تحالفت الثورة العربية معه ثم فوجئت بخذلانه لها، ولقد رحل الغرب المستعمر من الأبواب بعد تحقيق الاستقلال، ولكنه سرعان ما دخل من النوافذ وأقام أنظمة حكم في عدة بلدان عربية تضمن له استمرار نفوذه وتحقيق مصالحه، ولكنه فوجئ مؤخراً بسقوط مثير لممثليه وحراس مصالحه في النظام العربي (مبارك وبن علي والقذافي) فسارع لاحتواء الثورات العربية التي بدأت تطلب منه الدعم والرعاية الدولية. وأهم ما ينبغي أن يتأمله الثائرون من دروس التاريخ هو درس الثورة العربية الكبرى مطلع القرن العشرين حين استعانت بالحلفاء فحفروا لها قبر النهاية ووأدوها قبل أن تنهض، ثم جاء "سايكس" و"بيكو" بسكين التقسيم فشرحاها بسكين مزقتها إلى دول طوائف ثم جاء "بلفور" ليقتطع منها القلب، وما تزال جراح تلك السكاكين تنزف إلى اليوم، فهل يضمن صناع المستقبل من الأحفاد ألا يقعوا في خطيئة الأجداد؟