في غضون ثلاث سنوات فقط تغير حال عالم المال والأعمال، إذ بعد أن كانت البنوك والمؤسسات المالية تروج للقروض للتخلص من السيولة الزائدة المتوفرة لديها، أصبحت تبحث بشق الأنفس للحصول على هذه السيولة النقدية، مقلبة أوراق دفاترها القديمة للبحث عن القادرين على السداد والمودعين الذين لا زالوا يملكون قدراً من السيولة، مثلما حدث مع "تاجر البندقية" في رائعة ويليام شكسبير. ولكن أين هم هؤلاء المالكون للسيولة المفقودة؟ فالأرضية النقدية لأوروبا تشبه إلى حد بعيد أرض الصومال الجافة هذه الأيام، وذلك بعد أن سحبت اليونان أرصدة الألمان والفرنسيين، من خلال القروض والتمويل سابقاً ومن ثم من خلال خطط الإنقاذ المتتالية التي لم تعط نتيجة إيجابية حتى الآن في بلد يتظاهر الناس فيه كل يوم في الشوارع بدلاً من التوجه إلى أماكن الإنتاج والعمل لإنقاذ اقتصادهم المنهار. أما الولايات المتحدة، فقد أضحى وضع السيولة لديها يشبه وجه عجوز طاعن في السن جاف وخالٍ من ملامح الحياة، وذلك على رغم طبع 2.35 تريليون دولار ضمن ما يسمى بـ"التسيير الكمي" الذي لم يفلح في تسيير الأمور وفق الخطط الموضوعة. وإن المرء ليحتار فعلًا أين اختفت مئات المليارات في طرفة عين، وكأنها تسربت إلى الفضاء الخارجي مع رواد محطة الفضاء الدولية! إلا أن الأمر لا يخلو من عملية تشبه إلى حد بعيد عملية التدمير الذاتي للخلايا عندما تشيخ أو تصاب بمرض عضال، فالنظام الاقتصادي العالمي يكتسي يوماً بعد آخر طابعاً طفيليّاً يعتمد على المضاربات والمعاملات المالية الخاطفة، وهو ما أشار إليه بعض فلاسفة ومفكري القرن التاسع عشر أثناء بحثهم في طبيعة وآفاق تطور العلاقات الاقتصادية للمجتمع الصناعي، الذي بدأت تتبلور طبيعة علاقات عناصر الإنتاج فيه مع بعضها بعضاً في ذلك الوقت. ولذلك، فإن الحل لا يكمن في البحث عن السيولة، وإنما في ضرورة تغيير طبيعة العلاقة بين عناصر الإنتاج ذاتها، وذلك بتوفير الحد الأدنى من العدالة وباعتماد القطاعات الإنتاجية، كأساس للنمو الاقتصادي الفعلي، بدلاً من التركيز على تضخيم الأصول، كفقاعات سرعان ما تنفجر لتتبدد معها مدخرات الأفراد وموجودات المؤسسات والحكومات. وتتجه الأنظار الآن إلى الصناديق السيادية للبلدان الصاعدة لتزويد الأسواق العالمية بجزء من السيولة عن طريق تزييت مكائن المؤسسات الغربية الصدئة. ومن هنا يحاول "بنك أوف أميركا" بيع حصة تقدر بـ 17 مليار دولار لصناديق خليجية، وذلك بعد أن قرر إلغاء 30 ألف وظيفة لتوفير خمسة مليارات دولار سنويّاً، إذ يتطلب الأمر التعامل بحذر مع هذا العرض، وخصوصاً بعد التجربة القاسية لشراء حصة في "سيتي بنك" التي لم تكن تجربة مريحة، مما منح المؤسسات الخليجية خبرة أكثر في التعامل مع عمليات الاستثمار في الأسواق الدولية. وخلافاً لفترة ما قبل الأزمة، فإن الخيارات غدت أكثر تنوعاً وجدوى بالنسبة للصناديق السيادية، حيث تتوفر فرص واعدة في البلدان الصاعدة، مما يفسر زيادة الاستثمارات الأجنبية في الصين والهند وتركيا والبرازيل وروسيا، حيث أعلنت صحيفة "كوميرسانت" في بداية الشهر الجاري عن رغبة الصناديق الخليجية في استثمار 100 مليون دولار في مصارف روسية في الفترة القادمة. ومما يرجح التوجه نحو الاقتصادات الصاعدة استمرارها في تحقيق معدلات نمو مرتفعة واعتمادها على قطاعات إنتاجية وتأثرها بصورة أقل بلوثة تضخيم الموجودات المفتعل عن طريق الأدوات المالية، حيث أعلنت الصين في هذا الصدد عن استعدادها لإنقاذ منطقة "اليورو" بشرط عدم إعاقة الصادرات الصينية لبلدان الاتحاد الأوروبي واعتماد اقتصاد السوق. وإذا ما تمكنت الصناديق السيادية من حسن الاختيار وبعيداً عن إغراءات الربح السريع، فإنها ستعزز من مكانتها وستعوض خسائرها الدفترية التي تكبدتها أثناء الأزمة مع إمكانيات مهمة للاستحواذ على مؤسسات مالية عريقة في الغرب والاستثمار في مؤسسات واعدة في الشرق.