لا يستطيع الكاتب -أي كاتب- ألا يهتم بالتعليقات التي تنشر على شبكة الإنترنت تعقيباً على المقالات التي يكتبها. وقد سبق لي أن قلت إن الشبكة قد حولت النصوص الفردية إلى نصوص جماعية! على سبيل المثال نُشرت على الشبكة ستة تعليقات مهمة على مقالي الماضي الذي نشر يوم 14 سبتمبر 2011 بعنوان "الاحتجاج الثوري والعنف الجماهيري". وبعض هذه التعليقات تحليلات قيمة للمشهد الراهن قد تفوق ما توصلت إليه. وبعضها ينقد بعض آراء الكاتب نقداً موضوعيّاً، ولا يخلو الأمر من تعليقات تهاجم شخص الكاتب ذاته، وتندد ببعض مواقفه قبل الثورة بدون التحقق من صحة الوقائع! وفي ضوء اهتمامي العميق بالقراءة الدقيقة لكل تعليق قررت -كما فعلت من قبل- أن أخصص هذه المقالة لعرض وجهات نظر القراء كما وردت على الشبكة، وبغض النظر عن موافقتها أو معارضتها للآراء التي صغتها من قبل. وقد لفت نظري -على وجه الخصوص- تعليق مطول كتبه بشكل منهجي دقيق د. جمال عيسى. وأهميته ترد إلى أنه حاول -بتوفيق كبير- تحليل الفجوة العميقة القائمة بين جيل شباب الثوار والأجيال السابقة عليهم، بل وتطرق إلى أساليب التنشئة الاجتماعية التي طبقت على هؤلاء الشباب. ويعدد أسباب هذه الفجوة وأولها على الإطلاق -من وجهة نظره- أن جيل الشباب تربى في معظمه بعيداً عن الأم والأب نظراً لانشغالات الحياة، وهو حين وصل إلى مراحل التعليم المختلفة، لم يجد سوى تعليم رديء ومدارس تفتقر إلى وجود القدوة الصالحة. بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من هذا الجيل لم يجد فرصة عمل داخل الوطن، ولم يستوعب ثقافة المجتمع وتقاليده، وانقطع التواصل بينه وبين الأجيال السابقة. غير أن أهم أسباب الفجوة، هو أن الشباب لم يتعلم السياسة نظراً لضعف الحياة الحزبية، مع أن الأحزاب -كما يقول- هي مدارس السياسة. ويشير المعلق إلى سبب بالغ الأهمية، هو أن جيل الشباب لم تتوفر لهم الثقافة الفكرية الحقيقية القائمة على القراءة، بحكم أنهم غرقوا في التفاعل مع شبكة الإنترنت ساعات طويلة، منعتهم في الواقع من القراءة المنتجة. وإذا كان الشباب بتأثير القيم السائدة بين شباب العالم يؤمنون بالحرية والكرامة فقد فاتهم أنه ليست هناك حرية مطلقة لأنها مقيدة بحقوق الآخرين، كما أنه ليست هناك كرامة مطلقة، لأنها لابد أن تراعي عدم انتهاك كرامة الآخرين. وثورتهم ضد السلطة لا يجوز أن تمتد إلى الأمن، لأنه هو الذي يضبط إيقاع المجتمع، كما أنهم يتصورون أنهم فقط أصحاب الثورة مع أن الملايين من جموع الشعب المصري، هي التي حولت انتفاضتهم الثورية من مجرد مظاهرة إلى ثورة حقيقية. وإذا كنت أتفق مع معظم هذه الآراء، إلا أنني أريد فقط أن أشير إلى أن مفهوم التعليم التقليدي قد اختفى وحل محله التعليم متعدد الوسائط إن صح التعبير. وفي هذا المجال لا يمكن للشباب أن يتعلموا تعليماً فعالاً بغير التفاعل العميق والمتواصل مع شبكة الإنترنت الزاخرة بالمعلومات. غير أن المشكلة التي قد تفوتهم بل وتفوت كثيرين من أفراد الأجيال السابقة هي أن المعلومات لا تشكل بذاتها معرفة! فالمعرفة تحتاج في الواقع إلى تراكم فكري وعقل نقدي في نفس الوقت. وفي تصوري أن التعليم المصري في تركيزه على تكوين العقل الاتباعي التقليدي وعدم ترسيخه لقواعد العقل النقدي، هو السبب وراء الهشاشة الفكرية لعديد من الشباب. أما الكاتب اليمني "عبد العزيز يحيى" فقد ركز تعليقه على مقولة صحيحة، وهي أنه لا سياسة بلا أحزاب، وانتقد إغفالي لدور الأحزاب السياسية المعارضة في نقد النظام وإسهامها الفعال في عملية إسقاط النظام السلطوي. ومن ناحية أخرى فإن الدكتور "أحمد الجيوشي" يخاطب الكاتب قائلاً "لا تلم النتائج ولكن لُم الأسباب"! وخلاصة رأيه -وأنا أخفف في الواقع من حدة ألفاظه التي وصف بها بعض شباب الثوار- أن هؤلاء "الذين يأخذون مصر إلى أسفل سافلين لم يفعلوا ذلك إلا بسبب الرضوخ التام لمطالبهم الثورية المشروعة وغير المشروعة". وقد أختلف مع المعلق في كون شعارات الثورة الأساسية أي الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة كلها مشروعة، وهي تعبر عن طموح الشعب المصري في أن يحيا حياة إنسانية كريمة، ولكن الخطأ الحقيقي في نظري هو رفع مطالب متعددة لا تراعي الفروق الجوهرية بين المدى القصير والمدى المتوسط والمدى الطويل. وعلى سبيل المثال ظهر ناشط سياسي معروف على شاشة إحدى الفضائيات لكي يقرر بكل خفة -وسطحية- أن ستة أشهر مضت على الثورة ولم تتحقق العدالة الاجتماعية! ولم يدرك الرجل أن تحقيق العدالة الاجتماعية يحتاج إلى رؤية استراتيجية شاملة للمجتمع المصري، وخطط متعددة لإعادة صياغة أنساقه السياسية والاقتصادية والثقافية. وهي تحتاج لكي تحقق أهدافها إلى سنوات طويلة من العمل الشاق. ولا تعدم التعليقات معلقاً كريماً مثل الأستاذ "جمال القاضي" يقرظ فيها المقال، ويدعو لمزيد من النقد لمن يحاولون تشويه وجه الثورة النبيل. وإذا كنت قد أفسحت المجال لقرائي الكرام، فقد آن الأوان لكي أركز على عدد من النقاط الأساسية. وأول نقطة هي إسراف شباب الثوار في الدعوة إلى المظاهرات والاعتصامات والمليونيات في ميدان التحرير وغيره من الميادين الثورية، مما أفقد هذه المظاهرات مصداقيتها، وجعل جموع الشعب ممن لا يعملون بالسياسة في حالة إحباط حقيقي. وذلك لأنهم يرون ويشاهدون على شاشات التلفزيون شباب الثوار الذين انقسموا إلى أكثر من مئة ائتلاف ثوري، ويسمعون عن تشكيل عشرات الأحزاب الجديدة التي لا يعرفون عنها شيئاً، ويرقبون بقلق الصراعات الكبرى بين الليبراليين وأنصار التيارات الدينية. وقد تولد لديهم إحساس بأن الصراعات السياسية أغلبها الغرض منه تحقيق مصالح ذاتية وأحياناً شخصية، ولا تعبر تعبيراً حقيقيّاً عن مشكلاتهم الجسيمة التي يعانون منها، وفي مقدمتها الانفلات الأمني، والتضخم، ومواجهة المشكلات الكبرى كالبطالة وأزمة السكن والعلاج. ومن هنا اتسعت الفجوة بين النخب السياسية كافة وجماهير الشعب، التي تفاءلت بثورة 25 يناير، وشاركت فيها مشاركة فعلية. وقد يكون الحوار الجاد بين مختلف القوى السياسية للوصول إلى توافق موضوعي حول الخطوات الأساسية التي ينبغي أن نقطعها حتى ندخل مرحلة الانتخابات البرلمانية ووضع الدستور وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، هو الحل لسد الفجوة بين النخبة والجماهير التي تعاني من إحباط شعبي واسع المدى.