الزعيمان الفرنسي ساركوزي، والبريطاني كاميرون، يقفان في هيئة نابليون الشهيرة بالقبعة الثلاثية، والكف اليمنى في كم الصديري العسكري. هكذا لخص رسام الكاريكارتير البريطاني "ستيف بيل" المقولة المشهورة حول التاريخ عندما يعيد نفسه مرتين؛ مرة على شكل مأساة، وأخرى على شكل كوميديا مأساوية. وإذا كانت حملة نابليون على مصر مأساة، فاحتفال ساركوزي وكاميرون بالنصر في العاصمة الليبية كوميديا مأساوية. لقد حرص كلاهما على التأكيد بأنه لم يأت بحثاً عن عقود إعادة الإعمار السخية، أو صفقات نفط مربحة. وكل منهما "جاء في الحقيقة، كجميع الأبطال المنتصرين عبر التاريخ، سعياً وراء أكاليل الغار التي قد تثمر مع الوقت مردودات مالية مجزية، وهذا ما تعنيه بالنسبة لكليهما غنائم جولة الحرب". ذكر ذلك سيمون تيسدال معلق صحيفة "الغارديان" الذي اعتبر اشتراك الثنائي الفرنسي البريطاني في حرب ليبيا فرصة أثمن جداً من أن تفوّت. فـ"الفرصة السانحة قصيرة لشموخ ساركوزي وكاميرون المسحوقَين والمبتَلَين في بلديهما بالكساد الاقتصادي المدوّر، والبطالة، واليونان المفلسة، وانخفاض الشعبية الانتخابية". لكن أكاليل الغار ووعود النفط الليبي السخية لم تجلب للزعيمين ولو بضعة سطور على الصفحات الأولى للصحف الغربية. فالخبر الرئيسي في اليوم التالي لاحتفالات ليبيا كان "كواكي أدوبولي"، وهو مصرفي شاب من غانا، مسؤول عن خسارة مصرف الاستثمارات السويسري "يو إس بي" أكثر من ملياري دولار. صورة "أدوبولي" مستلقياً على السرير مأخوذة من موقعه في "الفيسبوك" مع آخر عبارة كتبها حول انتظاره "معجزة". وأدوبولي نفسه كان يعتبر من قبل زملائه ومدرائه "معجزة" ساهمت في إنقاذ "يو إس بي" الذي يعدُّ من أكبر المصارف الأوروبية. تخرج أدوبولي من جامعة "نوتنغهام" البريطانية، والتحق عام 2006 بالعمل في مكتب المصرف السويسري في حي المال بلندن، حيث "المعجزات" تقع يومياً في "اقتصاد كازينوهات" القمار. ومعجزة أدوبولي "صناديق المتاجرة المتبادلة" التي تحقق ملايين الدولارات بسرعة مذهلة. تتكون هذه الصناديق من سلة استثمارات تحاكي حركة الأسواق المالية. والمحاكاة كما في ألعاب الفيديو تتيح المتاجرة بكم هائل من العملات والسلع، والأسهم والمنتجات المالية، وحتى المعادن والذهب، وهي الأداة المفضلة للمضاربين، وتعتبر مسؤولة عن قفزات أسعار المنتجات الغذائية حول العالم. والشباب عمر العبقرية في اقتصاديات المحاكاة، كما في ألعاب الفيديو. وقد أعادت فضيحة أدوبولي فتح ملفات لاعبين شباب دمّروا مصارف كبرى. ولا حاجة لانتظار محاكمة أدوبولي لمعرفة أسرار احتياله الذي يهز أركان النظام المصرفي عبر القارة الأوروبية. فالعملية مشابهة بشكل مدهش، حسب صحيفة "نيويورك تايمز" لاحتيال جيروم كيرفيل الذي سبب خسارة المصرف الفرنسي "سوسيتيه جنرال" نحو سبعة مليارات "يورو" عام 2008. وقال كيرفيل الذي حكم عليه أخيراً برد الأموال المفقودة والسجن ثلاث سنوات، إن المصرف كان يغلق عينيه عندما يحقق له الأرباح الطائلة. وقد أغلقت المصارف عيونها عن هذه "الزاوية الساخنة" من النظام المصرفي العالمي التي يبلغ حجم تعاملاتها نحو التريليون دولار سنوياً، وتستخدمها صناديق الاستثمارات الائتمانية والمؤسسات المالية الكبرى للقيام برهانات قصيرة المدى على مواقع محددة من السوق. وعندما يشرح خبراء علم النفس المصرفي الملامح النفسية للمصرفيين المحتالين الشباب؛ كانتهاك القواعد، والشخصية الساحرة، والأناقة الفائقة، والذاتية المفرطة، والعمل بالخفاء... يكتشفون أنها مقومات النجاح نفسها في العمل المصرفي! وسيعلمون لو نظروا أعمق أن فساد النظام المصرفي الغربي من فساد النظام السياسي الغربي، ولو أخضع السياسيون لقواعد الحساب المصرفي لحُكم على زعماء غربيين لارتكابهم جرائم كبرى سببت خسارة تريليونات الدولارات وهلاك ملايين الناس. وما يفعلونه حالياً بالربيع العربي يوضح أن الدرس الوحيد الذي تعلمه الغرب من التاريخ هو أنه لم يتعلم شيئاً، ليس التاريخ البعيد فقط بل تاريخ أيامنا أيضاً. "وكل شيء تاريخ: ما قيل بالأمس تاريخ، وما قيل قبل دقيقة تاريخ"، حسب الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي شرح في كتابه "الأنثروبولوجيا البنيوية" كيف "يخطئون في الحكم على الحاضر، لأن دراسة التطور التاريخي وحدها تسمح بتقييم العلاقات المتبادلة بين مكونات المجتمع الراهن". وعند تقييم العلاقات المتبادلة بين مكونات المجتمعين المصرفي والسياسي، يتساوى المصرفيون والسياسيون الذين عقدوا صفقات بالملايين مع القذافي، وتحايلوا بعد ذلك على قرار مجلس الأمن حظر الطيران على قواته. وإذا كان تبرير القصف الجوي حماية المدنيين في ليبيا فلماذا لا يحصي "الناتو" عدد الضحايا؟ يتساءل حميد دردغان، مدير "برنامج كل الضحايا" في جامعة أكسفورد. ويكشف دردغان الذي شارك في تأسيس منظمة "إحصاء جثامين العراقيين"، عن غلق الأمم المتحدة في يونيو "مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية" الذي كان يمول "خريطة الأزمة الليبية" لرصد الحوادث الأمنية! وسامح الله زعماء الثورة الليبية على تكرمهم برد فضل الدول التي دعمتهم "التزاماً بتقاليد الوفاء العربي". والعرب يحتاجون اليوم إلى ما يسميه المؤرخ الإسباني خوسيه أورتيغا غاسيت "التاريخ في كليته، ليس للوقوع فيه مجدداً، بل للنظر كيف يمكن الهرب منه". وكيف الهرب من جنون العظمة لدى القذافي، وهو في كليته جنون الواقع المستميت في الدفاع عن واقعه؟ وعندما نرى الواقع الليبي في كليته التاريخية الجيوبوليتيكية نكتشف الثروات الهائلة، الطبيعية والبشرية والإبداعية، للمنطقة، ولم يكن هذا يجنن القذافي وحده بل أجيالاً بكاملها فتحت عيونها على نكبة فلسطين. وسواء أدركته أم جهلته الثورات الحالية، فإن روحها صرخة فلسطين المغتصبة، وكل ما يفعله العرب والمسلمون عبر سبعين عاماً هو تقاسيم على تلك الصرخة. مقابل ذلك جنون عظمة ساركوزي وكاميرون، وغيرهما من ورثة اتفاقية "سايكس بيكو" العاجزين عن رؤية الواقع في كليته التاريخية الجيوبوليتيكية. إنهم يبحثون في الحرب الأهلية الليبية بديلاً عن الحروب الأهلية الأوروبية التي خسروها بعد أن سجلت في القرن الماضي أرقاماً قياسية في الفتك والدمار. وكما في حركة الصفائح القارية، كشف الزحف الاقتصادي العالمي عن تغيرات مالية بحجم أوروبا، تهز النظام المصرفي الدولي. "يردُّون بالرماح على التهديد النووي"، عنوان افتتاحية "الغارديان" بمناسبة فشل اجتماع وزراء المال الأوروبيين في بولندا الأسبوع الماضي. والرماح هي تعهدات "البنك الأوروبي المركزي" و"بنك إنجلترا" وبنوك مركزية أخرى بإعادة ضخ الأموال لملء خزائن المصارف الخاصة الخاوية، رغم فشل دورتي "التسهيلات الكمية" التي ضخت تريليوني دولار. مشكلة أوروبا أنها لم تملك بعد الهياكل اللازمة ولا الإرادة السياسية للقيام بما يسميها الرئيس المقبل لـ"البنك المركزي الأوروبي" داريو دراغي: "قفزة كوانتومية في الاندماج الاقتصادي والسياسي". هل يحقق العرب والمسلمون "القفزة الكوانتومية" من دون المرور بقرن من الحروب الأهلية؟ محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا