كنت في مونتريال فخطر ببالي أن أصلي العيد في المسجد. قلت نحن في كندا فلعل نظم الخطاب قد تغير بما يناسب الحقبة الكندية. أعرف أن هناك جالية عربية كبيرة، لذلك قلت في نفسي: الناس في سوريا هذه الأيام يعيشون حمامات دم، وربما سيبدأ الخطيب بالترحم على شهداء الحرية هناك. لكني سمعت فعرفت أني متجمد في الزمن أيام البيهقي والحصفكي، فقد فتح الرجل كتاب خطب الجمع لابن أبي نباتة من أيام ابن طولون. والعيب ليس في هؤلاء، بل في موت الثقافة. بدأ الخطيب يتحدث عن تعليم الصبيان، وتحمس له البعض لأن نهضة العرب ستأتي من التعليم. لكنها كلمة حق أريد بها باطل، أو كلمة غائب عن العصر والأحداث وغير مدرك لمعنى أن يجتمع الناس في يوم محدد للحديث عن موضوع غائب. بكلمة أدق تغييب الوعي عن أحداث الساعة. إن العلم عند خطباء المساجد يعني حفظ متون الألفية والأم للشافعي ومتن مراقي الفلاح في الفقه الحنفي. قلت في نفسي: لابد من تسجيل اعتراض، فنحن في كندا غير مطوقين بقطعان الشبيحة وفؤوس البلطجية ومخابرات المماليك... فسجلت اعتراضي وخرجت، وطلبت ممن حولي الخروج، فلم يخرج معي سوى رجل واحد. وهنا تذكرت ما ورد في سورة المائدة عن موسى وقومه: "قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين". فكم نحن اليوم نشبه بني إسرائيل قديماً حين ضربت عليهم الذلة والمسكنة وتبوأوا غضباً من الله... حتى ولو عبرنا الأطلسي إلى كندا. وظيفة المسجد في نظر كل من البوطي و"مبشر" الحداثة أدونيس انحرفت. في توافق غير مفهوم. أدونيس يرى أن خروج المحتجين المتظاهرين من رحم المساجد في مواجهة النظام، يمثل قمة الرجعية. أما البوطي فيرى أن من يدخل المسجد لا يمكن أن يسجد أو يركع لغير الله. هنا نحن أمام ظاهرة فريدة تتمثل في اتفاق طرفين من اتجاهين متناقضين: أدونيس مع مؤسسة الفقهاء. الثورة السورية جمعت الأضداد في وجهها. لكل عضو في الجسم وظيفة، ولكل مؤسسة في جسم المجتمع مهمة. الكلية للإفراغ، والرئة للتنفس، والدم للمناعة وحمل الأكسجين، والدماغ للفكر. كذلك حال المؤسسات في المجتمع. الجيش عضلات المجتمع وعظامه، والإعلام وجهه وفمه الناطق، وزارة المواصلات شرايين وأوردة دمه، ووزارة المالية دمه، ووزارة الاقتصاد نقي العظام والكبد... فأين وزارة الأوقاف في جملة وظائف الجسم؟ أما وظيفة المسجد فمكانها العقد اللمفاوية في الجسم حيث تضطلع بدور دفاعي في تقوية الجهاز المناعي. لكن هل انحرفت وظيفة المسجد مع اندلاع ثورات الربيع العربي؟ الجواب نعم ولا في آن واحد؛ فوظيفة المسجد انحرفت منذ العهد الأموي، حيث تمت مصادرة المنبر والخطبة بيد السلطان، فلا وظيفة للإمام والخطيب إلا الدعاء للأمير القاهر للعباد إلى يوم التناد. لكننا اليوم أمام ظاهرة جديدة تعود معها الروح لهذا الجسد المسجى بالبردعة الرسمية!