لاشك أن المواقف الدولية من الحركات الثورية الراهنة في عدد من البلدان العربية شديدة الأهمية وبالغة الدلالة في الوقت نفسه. هي أولاً شديدة الأهمية لأنها لعبت وما تزال دوراً مهماً -مهما كان ثانويّاً- في تحديد مسار هذه الحركات ومصيرها، كما يتضح بجلاء في الحالة الليبية، وهي ثانيّاً بالغة الدلالة لأنها تلقي بمزيد من الضوء الكاشف على طبيعة السياسة الدولية وحقائقها، الأمر الذي يفترض أنه يساعدنا على حسن "التدبر" في حركتنا في البيئة الدولية. وقد تميزت هذه المواقف بعدة سمات عامة أولاها "الانتهازية"، بمعنى أنها عكست تطور الحركات الثورية، فهي مواقف "خشبية" عندما تبدو هذه الحركات في مراحلها الأولى الضعيفة، ثم تدعو إلى حوار للخروج من الأزمة عندما يشتد عود الثوار في ظل استمرار تمتع النظام بعوامل واضحة للقوة، وأخيراً تلقي بثقلها في كفة الثورة عندما يتضح أنها باتت في طريقها الأكيد إلى النصر. وثانية هذه السمات بعد "الانتهازية" هي "ازدواجية المعايير" بمعنى تأييد ثورة دون أخرى، مع أن الباعث واحد والهدف مشترك، وسبب هذه الازدواجية يكمن بداهة في المصالح. ولكن السمة الثالثة، وهي واحدة من أهم السمات، تتمثل، في أن بعض المواقف الدولية ظل مثابراً على موقف الاعتراض على الثورات، أو على الأقل التحفظ عليها لأسباب مصلحية أيضاً سيُشار إليها لاحقاً. وفي السياق السابق يمكننا أن نلاحظ أن المواقف الدولية قد انقسمت بصفة عامة إلى قسمين: أولهما تنطبق عليه سمة "الانتهازية" بشكل واضح، والثاني أظهر الاعتراض على الثورات أو على الأقل التحفظ عليها، وأبقى النظام القديم رقماً أساسيّاً في معادلة المستقبل. أما القسم الأول المتصفة مواقفه "بالانتهازية" فتأتي على رأسه القوى الغربية الكبرى التي كان يُفترض أنها رتبت مصالحها مع النظم القائمة، وهي ترى في عدم الاستقرار الناجم عن الحركات الثورية تهديداً لهذه المصالح، حتى لو كانت هذه الحركات تسعى إلى الاقتراب من "المثالية الديمقراطية" التي تعلن تلك القوى أنها لا تريد أن ترى سواها أساساً لنظم الحكم في العالم أجمع. وربما كان المثال الواضح في هذا الصدد هو الموقف الإيطالي من الثورة الليبية في البداية، حيث كان برلسكوني رئيس الوزراء الإيطالي قد رتب مصالح بلاده مع نظام القذافي على أفضل نحو ممكن، ومن المؤكد أنه لم يكن سعيداً بفكرة سقوط هذا النظام ومجيء نظام جديد لا تُعرف على وجه التحديد توجهاته، ولكنه عندما تيقن من أن الثورة الليبية ناجحة لا محالة، وأن هناك من سبقوه إلى ركوب قطار المؤيدين لها أسرع بدوره بالقفز بحماسة إلى هذا القطار. ويذكرنا هذا بموقف تركيا التي تبنت من المواقف تجاه الثورة الليبية في بدايتها ما أثار غضب الثوار، ومن المؤكد أن هذا الموقف قد بُني على أساسٍ من مراعاة طموحات تركيا الاقتصادية الكبرى في المنطقة، ولكن المسؤولين الأتراك تحولوا لاحقاً إلى موقف تأييد للثورة بعد أن أصبح واضحاً لديهم أن معاداتها -أو عدم الحماس لها على الأقل- هي التي يمكن أن تضر بهذه الطموحات، ناهيك عن تأثيرها السلبي على المسعى التركي إلى تعزيز فكرة الدور الإقليمي لتركيا. أما القسم الثاني من المواقف الدولية المعترضة على الثورات، أو على الأقل المتحفظة عليها، فيبدو واضحاً للغاية من الموقفين الروسي والصيني تحديداً، وما أبعد الليلة عن البارحة، ففي منتصف خمسينيات القرن الماضي كانت عملية بناء نظام عالمي جديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية تتم، وانتهى المآل بهذه العملية إلى نظام ثنائي القطبية يتمتع فيه الاتحاد السوفييتي بوضع القطب الثاني في مواجهة القطب الأميركي، وكان لكل من القطبين حلفاؤه، وكانت الصين آنذاك -وإلى حين- من أبرز حلفاء الاتحاد السوفييتي، وفي هذا السياق كان الصراع جاريّاً على كسب الدول إلى أي من معسكري القطبين سعياً إلى تحقيق الهيمنة العالمية، وكان موقف الاتحاد السوفييتي -الذي تعتبر روسيا الاتحادية وريثته الفعلية- ومعه الصين يتمثل في تأييد الثورات الوطنية بدءاً بحركات التحرر الوطني وانتهاءً بالنظم الساعية إلى كسر نظام الهيمنة الغربية، أي أن الاتحاد السوفييتي كان يقف بوضوح مسانداً لهذه الثورات التي اعتبرتها القوى الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- تهديداً لمصالحها الكونية في مناطق حساسة من العالم، ومن ثم وقفت القوى الغربية موقف العداء من تلك الثورات، بل وحاولت حصارها والتآمر عليها سعياً إلى تقويضها (الثورة المصرية في 1952 نموذجاً). أما الآن فقد دارت الدائرة، وتبدلت الأدوار، بعد أن اضطرت القوى الغربية "كارهة" إلى تأييد الحركات الثورية العربية بعد فترة تردد للاعتبارات السابق بيانها، فيما قامت روسيا والصين بالدور الغربي في السابق في معاداة هذه الثورات خوفاً على مصالح قد تضيع، أو من هيمنة غربية يمكن أن تسود العالم من جديد. وإذا كانت مواقف تلك القوى الكبرى قابلة للتفسير على أساس التحليل السابق فإن مواقف قوى إقليمية كبرى مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والهند تحتاج إمعان نظر، وخاصة أن هذه القوى تكاد ترقى إلى مرتبة القوى الكبرى، وأهمية هذه القوى الثلاث -بالإضافة إلى ما سبق- أنها أولاً قوى "تقدمية" إذا جاز التعبير، أو على أقل الفروض هي قوى ديمقراطية، ومن ثم فمن المفترض أن تكون لها تحفظاتها الشديدة على النظم التي قامت الحركات الثورية العربية ضدها، باعتبار البون الشاسع بين هذه النظم وبين أية سمة من سمات الديمقراطية، ولكن هذه القوى الثلاث تبدو منغمسة في جهد لافت في بناء النظام الدولي الجديد على أساس من عدم هيمنة القوى الغربية أو أية قوى أخرى عليه، وبالتالي فإنها تكون قد اعتبرت أن المواقف الغربية في "طبعتها" الأخيرة جزء من مسعى لبناء هيمنة جديدة على قوى العالم الثالث، ومن هنا كانت مواقفها المعترضة على أية قرارات دولية يمكن أن تصيب النظم التي قامت الثورة ضدها بالوهن، أو تفرض عليها عقوبات جسيمة. وثمة عامل آخر محتمل في تفسير موقف تلك القوى وهو أنها ربما تكون قد اقتنعت بأن النظم التي قامت الثورات ضدها تضطلع بدور بارز في مواجهة الهيمنة الغربية -وبالذات النظامان الليبي والسوري- ومن هنا وجب تأييدها وعدم التخلي عنها. وأخيراً فإن مما لاشك فيه أن النظم العربية التي ثارت شعوبها عليها قد قامت بجهد دبلوماسي حقيقي مع تلك الدول لكسب الأنصار، غير أنه يبقي أن دولاً مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والهند كان يتعين عليها أن ترى المنطق الصحيح في تفسير الثورات العربية، بحيث تحاول أن تجيء ممارساتها متسقة مع قيمها. وربما يكون مفهوماً بدرجة أكبر لماذا تمسكت دول أفريقية صغيرة بنظام القذافي، والإجابة بطبيعة الحال أنه استطاع "تجنيد" هذه الدول -إذا جاز التعبير- من خلال "مشروعه السياسي الأفريقي" المدعم بمنافع اقتصادية لتلك الدول. ويعني ما سبق أن الثورات العربية الراهنة مطالبة، إضافة إلى الفعل الثوري في الداخل، بالتحرك الخارجي لكسب الأنصار وكشف طبيعة النظم السابقة، فالمصير الآمن للثورات لن تحسمه لغة السلاح وحدها.