عندما أُتيحت لي مقابلة أردوغان في أنقرة قبل ثلاثة أسابيع، بصحبة فؤاد السنيورة، كان يُعِدُّ بعنايةٍ لزيارته للقاهرة. وما ذكر هو وأوغلو (الذي قابلناه باسطنبول بعد ذلك) تفاصيل بالطبع عن تصوره للعلائق الممكنة أو الواجبة مع مصر، لكنه كان يُصرُّ على أنّ مصر هي الأمر الأكبر وصانعة الهوية والانتماء في المجال الثقافي الإسلامي. بيد أنّ حيرتهما (هو وأوغلو) ظهرت عندما واجههما الرئيس السنيورة بأُطروحته التي كرّرها مراراً خلال المقابلتين: المدخل الصحيح إلى العالم العربي هو مصر والسعودية، بل إنهما المدخل الصحيح أيضاً لمعالجة ما يجري في سوريا. عندها شكا الرجلان من صعوبة الأمر في الحالتين. فخلال خمس زيارات إلى مصر من جانب أوغلو بعد ثورة 25 يناير، قابل ثلاثة وزراء للخارجية لكلٍّ منهم رؤيته للعلاقات المصرية التركية والعربية التركية. أمّا السعوديون فهم مستمعون جيدون، لكنهم لا يبدون مهتمين بما وراء البحرين في هذه الفترة على الأقلّ! والواقع أنّ هذه الرؤية وحيدة الجانب، لأنني سألْتُ المصريين فشكوا من أنانية الأتراك وحُبّهم للتذاكي، وسألْتُ السعوديين فقالوا إنّ الأتراك ما عرضوا عملاً مشتركاً حتّى في القضية الفلسطينية، فضلاً عن الوضعين بسوريا والعراق والتوتُّر مع إيران. إنما منذ ذلك الحين صارت رؤيتهم أَوضح بشأن القضية الفلسطينية، وظلُّوا على رؤيتهم للأوضاع بسوريا منذ بداية الأزمة، وإن استخدموا تلك الرؤية هذه المرة للتلاقي ظاهراً مع موقف الجامعة العربية: وقف العنف والدخول في حوار وطني بجدولٍ زمنيٍّ للإصلاح. دخل الأتراك في الأصل إلى المشهد العربي عبر بوابتين: القضية الفلسطينية عبر حركة "حماس" و"الإخوان المسلمين"، و"العلاقات الاستراتيجية" مع النظام السوري. ورغم أنّ الأمرين (القضية، والنظام السوري) عليهما خلافاتٌ كثيرة، ويثيران حساسيات عربية وإقليمية ودولية؛ فإنّ وزير الخارجية التركي أسَّس المقاربتين على أُطروحته أو مقولته:" صفر مشاكل"! وكانت نتيجة ذلك (ورغم طواف أوغلوا خلال السنوات الماضية مستشاراً فوزيراً للخارجية على سائر الدول العربية وبؤر التوتر فيها في محاولاتٍ للتوسط) أن ظهر الإسلاميون الأتراك (المعتدلون) بمظهر مَن اختار حزبه وفريقه إلى جانب إيران وسوريا و"الإخوان المسلمين". وعندما كان العرب يشكون من هذا الأمر، كان الأتراك يقولون: نحن معكم، إنما لابد من التواصُل مع الآخرين لأنهم مسلمون أيضاً، ولأنّ القطيعة توسّع رقعة الخلاف، ولأنّ الفريق المُعادي هو إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة ولا يجوز أن نكونَ معهما ضد إيران! وما تراجع الأتراك ظاهراً عن هذه المقاربة، رغم تخييب إيران وسوريا لهم مراراً (التوسط في الملفّ النووي، والتوسط في العراق، والتوسط من أجل الإخوان، والتوسط في لبنان، والتوسط بين سوريا وإسرائيل) حتّى بدأت الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وتحمّس الأتراك لها جميعاً، ثم ظهر أمران اثنان: إخراج الأوروبيين وعلى رأسهم فرنسا تركيا من التدخل والشراكة في الأزمة الليبية، وامتداد الثورة إلى سوريا. فالإخراج من ليبيا خلقَ مرارةً شديدةً لدى الأتراك وزاد من إصرارهم على رفض التدخل الأجنبي مثلما حدث في العراق وليبيا. أما الثورة في سوريا فقد أرادوا التدخل السريع للاستيعاب وإنقاذ حليفهم الرئيس الأسد، وعدم الإساءة لعلاقاتهم الاستراتيجية مع إيران، وفي الوقت نفسِه كسب عواطف الشعب السوري وبخاصةٍ "الإخوان"! وقد فشلوا في هذه الأمور جميعاً رغم الجهد الكبير المبذول، ورغم مخيمات اللجوء التي أقاموها على الحدود، واجتماعات المعارضة السورية التي استقبلوها في أنطاليا واسطنبول وأنقرة. والسبب أنّ الطرفين الإيراني والسوري في حالة تأزُّمٍ شديدٍ، وإذا كان لابد من تنازُلات فباتجاه الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وليس باتجاه تركيا التي تريد التغلغل والسيطرة مثلهم، وبخاصةٍ أنها تملك "أجندة سرية" سواء مع الغرب (باعتبارها دولة أطلسية)، أو مع الأكثرية السنّية (باعتبار تركيا سنية)! لقد عادت تركيا في الأسبوعين الماضيين إلى "قواعدها الأصلية" أو مدخلها الأصلي إلى العرب عبر الالتزام بالقضية الفلسطينية، أي بالحلّ العادل والشامل والسلْمي، وليس عبر رفضية "حماس" و"حزب الله" وإيران. وهذا ما قاله أردوغان في الجامعة العربية بالقاهرة حيث اجتمع أيضاً بعباس ومشعل. أمّا في المسألة السورية فقد حمل مثل أهل الجامعة العربية على سفك الدم والعنف، وطالب بالحوار وإنفاذ الإصلاح. وهذا الموقف إنْ لم يكن لفظياً؛ فإنه حريٌّ أن يشكّل سقفاً عربياً تركياً للتغيير، يمكنه التواصُل مع الصين وروسيا للهدف ذاته: التحول الديمقراطي السلمي بسوريا. فقد حذَّر أردوغان من حصول نزاع مسلَّح سني علوي، وهذا غير ممكن إلاّ إذا طالت الأزمة، وحاول النظام السوري الوصول لذلك كما أشار أردوغان. والذي يُنقذ من هذا المصير المحذور التعاون التركي العربي بالفعل وليس بالقول، بدلاً من الاستمرار اللفظي في التحذير من التدخلات الأجنبية! فإيران تتدخل وبقوةٍ في الملفّ السوري، وما قال أردوغان إنه تدخُّلٌ مرفوضٌ مع أنه يزيد من إشعال العنف من جانب النظام على المواطنين السوريين المسالمين العُزَّل. لقد نفد زمن الثناء على المقاربات العامة من جانب الإيرانيين والأتراك على حدٍ سواء. وهناك سياساتٌ عربيةٌ الآن تُجاه فلسطين وتجاه سوريا. والمطلوب من الأشقاء الأتراك: الذهاب مع العرب إلى الأُمم المتحدة، والذهاب معنا إلى سوريا لوقف أعمال العنف ضد الشعب السوري، بدلاً من تسليم الضباط الذين غادروا إلى تركيا لرفضهم المشاركة في أعمال القتل ضد شعبهم، إلى "رحمة" الرئيس الأسد، التي صارت معروفةً ومشهورة، بعد قتل أكثر من ثلاثة آلاف مواطن سوري بتهمة وحيدة هي التظاهر! بيد أنّ هناك جانباً آخر في علاقة أردوغان بمصر، هو جانب دورها في الثقافة الإسلامية، وفي التاريخ الإسلامي، وفي التعاون المصري التركي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ذهب لزيارة شيخ الأزهر، وتعهد بالاستمرار في إرسال الطلبة الأتراك لتعلُّم الإسلام "المعتدل" فيه، وحلّ المشكلات السابقة الناجمة عن عدم اعتراف السلطات التربوية التركية بشهادات الأزهر الدينية. وعندما تكلم في الأوبرا ذكر رموزاً مصريةً ثقافيةً اعتبرها رموزاً تركيةً أيضاً، ومن هؤلاء أحمد شوقي وأحمد رامي وأم كلثوم. وهكذا فهناك بحرٌ زاخرٌ من العلائق والرموز والمعاني التاريخية، صارت جزءًا من الذاكرة، ومن الإسلام السني التقليدي الذي هُدّمت مؤسساته بتركيا الكمالية، وبقيت في مصر من خلال الأزهر، ومن خلال معاهد ومدارس تعليم القرآن، ومن خلال الطرق الصوفية العريقة. وهذه مشتركاتٌ مهمةٌ، إذا أضيف إليها الآن التعاوُن في فلسطين وفي سوريا، تصبح تآزراً استراتيجياً بالفعل، فهيهات!