ثمة قضايا تواجهك كمسؤول في أي موقع تفرض نفسها عليك لأسباب عديدة. وإذا كنت مقتنعاً بها وبضرورة التعامل معها بإيجابية، فهذا أمر مهم، يستكمل بضرورة معرفة كيفية تحقيق الهدف. وإذا كنت غير مقتنع من الناحية المبدئية لكن ثمة ضرورة للقيام بخطوات معينة أو ثمة مصلحة في ذلك للشعب أو للدولة أو للمؤسسة أو للنظام أو للجمعية أو للحزب أو... فإن ثمة ضرورة لمقاربة الأمر بانفتاح دون تردد وعناد. في السياسة، لا مكان للعناد. ولا مكان للمكابرة. ولا مكان للحسابات الشخصية. لأن المسؤول، لا يقرّر عن نفسه ولنفسه فقط. هو يقرّر نيابة عن الناس ولمصلحة كل الناس. وهنا تبرز أهمية التلازم بين القناعة والمصلحة. لماذا أقول ذلك؟ لأن الأحداث التي يعيشها العالم العربي وتأخذ اسم الثورة، أو الانتفاضة، أو الفورة، أو الحركة الشعبية، لتحقيق الإصلاح والتغيير والحرية والديموقراطية، وقد أطاح بعضها بالرؤساء، والمسؤولين، وببعض الأنظمة، لم تؤد إلى قيام أنظمة جديدة بعد، ولم تظهر قيادات جديدة فاعلة، والنزوع نحو الفوضى والحروب قائم في عدد من الدول والتحريض والتعبئة والاستنفار تحت العناوين المذهبية ينذر بعواقب خطيرة. والأخطر من كل ذلك أننا لا نشهد هنا وهناك سقوط رئيس أو ملك ملوك أو نظاما فقط، بل للأسف نشهد سقوط الدولة في كل مكان تقريباً. الدولة بمعنى المؤسسات والقانون والشريعة التي تحكم بين الناس. وهذا يجعلنا نعيش مراحل انتقالية صعبة فيها تقلّبات وتغيرات وتطورات مكلفة جداً. مما يشعرنا بالخوف على المستقبل ويعزز القناعة بضرورة الانتباه إلى ما يجري وضرورة استباق الأحداث والحفاظ على فكرة الدولة. الدولة الجامعة تاريخاً ومصيراً ومؤسسات توضع في خدمة الناس. أما الفوضى فستقود إلى ما كان يخشى خطره القائد الكبير وصاحب التجربة السياسية الكبيرة والصدر الواسع والفكر كمال جنبلاط، وهو الوصول إلى مجتمع نعيش فيه حالة الغاب بلا شريعة في وقت يحذّر فيه الناس من شريعة الغاب! لذلك كان حذراً وقلقاً من انهيار مؤسسات الدولة خلال الحرب الأهلية في لبنان، حتى المؤسسات التي كان ينتقد أداءها، فكان يحرص على استمرارها، ويعمل على إصلاحها وتحسين أدائها! وللإمام علي ابن أبي طالب قول مأثور: "آلة الرئاسة سعة الصدر"! فالمسؤول الذي لا يكون صدره واسعاً قادراً على استيعاب أهله وبنائه وزملائه وأبنائه، لا يمكن أن يتحمل المسؤولية، أو أن يكون رئيساً لا على مستوى العائلة الصغيرة في المنزل ولا على مستوى الجمعية أو المؤسسة أو الإدارة أو الحزب أو التيار أو النظام أو الدولة. لذلك، فإن عملية الإصلاح يجب أن تكون نابعة من قناعة ذاتية. لأنها تجسد حركة التاريخ الحتمية وحركة التغيير الضرورية التي تفرضها حركة المجتمعات في كل العالم وبالتالي فإن هذه القناعة تترجم انفتاحاً ورؤية وبرامج وأفكاراً وحواراً مفتوحاً وإقبالاً على التغيير بثقة وخطى مدروسة إذا كان الحاكم يريد فعلاً مصلحة شعبه ودولته. أما التمترس وراء شعارات ومواقف لا تتعارض في الأساس مع الإصلاح، في محاولة للهروب من الواقع ومواجهة الاستحقاق، وتغطية عدم القناعة بالتغيير فهذا سلوك لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية ولا يضمن استمرارية بالتأكيد. وإذا افترضنا أن ليس ثمة قناعة مبدئية فعلى الأقل ينبغي التفكير بالمصلحة. المصلحة الذاتية، المصلحة الشعبية والمصلحة الوطنية واتخاذ الخطوات الكفيلة بحماية المؤسسة أو الدولة ومصالح الناس. هذا هو الأساس. غير ذلك فإن الطريق بات واضحاً. التهّور والنتائج تفوق التصّور. الانزلاق نحو التفكك والمذهبية وشرذمة الناس وسقوط المؤسسات، وهذا ما يريده كل الذين يستهدفون شعوبنا ومصالحها وثرواتها وخيراتها. لقد أثبتت التجارب أن السياسات التي اعتمدت حتى الآن أدت إلى دمار. وسقوط قادة وأنظمة. لكن السقوط هذا أدى إلى سقوط المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية والتربوية. سقط كل شيء. وعملية إعادة بناء المؤسسات لم تنجح كما يجب في أي مكان. هذا العراق. أين أصبح جيشه وشرطته وأمنه؟ أين مؤسساته النفطية، والمائية، والإدارية والتربوية؟ ثمة عملية توزيع للخيرات على هذا وذاك، أو تقاسم بين ممثلي مذاهب أو أحزاب. والبلاد غارقة في الفوضى والفقر والعطش والجوع وهي أغنى دولة عربية لناحية مواردها. تُدمّر الجيوش، وتُبدّد الأموال التي أنفقت على تجهيزها، ثم لإعادة بنائها وتدريبها وتسليحها، تُبذر أموال أخرى و"المزراب" مفتوح، ولا تبنى على أسس سليمة، فتكون الخسارة شاملة. فكيف إذا كانت الخيرات توزع بقاياها في الداخل على ولايات وولاة. أما الخيرات الفعلية فمن نصيب الخارج؟ والقضايا الأساسية الجوهرية الجامعة والمهمة بالنسبة لأبناء بلادنا وديارنا فهي غائبة. إن الدولة بمفهومها المؤسساتي هي الأساس وهي الحاضن وهي الضامن للأفراد والجماعات أقليات كانت أم أكثريات. ونظرية التحالفات الثنائية أو الثلاثية أو غيرها المبنية على قواعد الأقليات لا تدوم ولا توفر استمراراً واستقراراً. هكذا أثبتت التجارب السابقة في كل مكان. كذلك، لا يجوز أن يشعر أي مواطن أو أي فريق أنه بحاجة إلى حماية خاصة وكأنه لاجئ في بلده ومحكوم بهذا القدر من قبل فريق آخر. الدولة هي التي تحمي الجميع. هذا ما يجب أن يكون وما يجب ويستحق السعي إليه. وما يجري اليوم في عدد من الدول من العراق إلى اليمن إلى ليبيا، وحتى في مصر، وما يستهدف سوريا يندرج في هذا السياق، وقد يأتي دور دول أخرى إذا استمر الوضع على ما هو عليه. من هنا أهمية اتخاذ القرارات من الداخل بقناعة ذاتية تتلاءم مع المصلحة الذاتية - بالمعنى الوطني للكلمة - للخروج من هذه الدوامة. ربما يعتقد البعض أنه فات الأوان، ولم يعد بالإمكان فعل شيء. وربما في هذا القول الكثير من الصحة. لكن لا يجوز التسليم أو الاستسلام لهذا الأمر. لا بد من الاستفادة من كل محاولة ودقيقة للعمل لتفادي الفتنة والانقسام والسقوط في المجهول. وثمة أفكار ومبادرات تطرح بشأن سوريا وغيرها ينبغي تلقفها والتعاطي معها آخذين بعين الاعتبار الوقائع السياسية والحقائق التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة. لقد تغيّر العالم. وتغيرت الخارطة السياسية. وتغيرت الأحزاب والقناعات والميول والأفكار والديموغرافيا في دول عديدة. أكان ذلك يعجبنا أم لا. فهو حقيقة لا يمكن تجاهلها. ولا ينفع الآن الوقوف أو الغرق في متاهات تحليل الأسباب والخلفيات. لا بد من التعامل مع النتائج الماثلة أمامنا دون مكابرة وإدعاء وغرور. الحركات الإسلامية موجودة والفكر القومي للأسف إلى تراجع ومنذ سنوات ونحن نقول ذلك لكن لا نفعل شيئاً حقيقياً. والحالات المذهبية والطائفية موجودة وتنمو ويعود ذلك لأسباب عديدة. والاكتفاء والتخويف والتحريض والتعبئة في هذا الاتجاه أو ذاك فقط، لا يكفي ولا يعالج هذا التطور الحقيقي في حياتنا بعد أن كنا نحن في أنظمتنا ودولنا وسياساتنا، قد ساهمنا في تسبّبه. ونأتي اليوم للانقلاب عليه أو مواجهته وبالتحديد بالآلة الأمنية. هذه السياسة لا تحمي دولاً ومؤسسات ولا تضمن مصالح شعوب. لست رومانسياً لأقول أتركوا الأمور تأخذ مجراها والناس تقرر ما تريد وكأنني لا أعيش في هذا العالم ولا أعرف المعادلات السياسية القائمة في المنطقة والعالم ومجريات الأحداث فيهما. لكن في الوقت ذاته لست مواطناً مقتنعاً بأن عدم القيام بالخطوات المطلوبة التي ذكرت، وبأن الاكتفاء بتشخيص الحالة والابتعاد عن تشخيص الحل واللجوء إلى الدم فقط هو السبيل وهو الحل. هذا أمر خاطئ وخطير... لا يكفي أن نحذر من العدو أياً يكن هذا العدو وأن نقوم في سياق مواجهة ما يجري في دولنا بكل ما يؤدي إلى النتائج التي تريحه! أقول ذلك ونحن في بداية الطريق رغم كل ما جرى حتى الآن. وللأسف سنشهد أحداثاً دامية وتطورات خطيرة في محيطنا وانعكاسات ذلك ستكون سلبية على الجميع دون استثناء. غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني