ما الذي دفع كلاً من نيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل إلى اعتبار أن ما يسمى "رأسمالية الظل" قد أصبح بمثابة أكبر تهديد يواجه الدول الصناعية الغربية؟ وما الذي جعل شركة مثل "بريتش بتروليوم" تستنفر كافة وسائل المواجهة الممكنة لاحتواء تداعيات كارثة التسرب النفطي بخليج المكسيك التي كانت طرفاً رئيسيّاً فيها؟ ثم ما السبيل لوضع حد لنشاط وضغوط "لوبيات" البنوك الرأسمالية الكبرى المتنفذة، والقادرة على لي أذرع بعض صناع القرار في العواصم الغربية لتوجيه سياساتهم نحو ما يخدم مصالح تلك البنوك، أو تحمل تبعات بعض سياساتها الفاشلة؟ وأخيراً، هل ستتكشف بعض تصنيفات وتكتيكات وكالات التصنيف وصبها للزيت على النار عن موت محقق لـ"اليورو"، وبالضربة الفنية القاضية؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما يثيره كتاب عنوانه "الرأسمالية الخارجة عن القانون" أصدره مطلع هذا الشهر الصحفي والكاتب الفرنسي "مارك روش"، وهو مراسل صحيفة لوموند في لندن لمدة عشرين سنة، وقد ألف كتباً ذائعة الصيت في مجال الصحافة الاستقصائية في مجالات الاقتصاد والمال، خصص أحدها لـ"إمبراطورية جولدمان ساكس"، كما أثار كتاب أصدره العام الماضي تحت عنوان "البنك" قدراً غير عادي من الاهتمام والرواج. وفي هذا الكتاب الجديد يسعى "روش" للبرهنة على أن عالم الاقتصاد يشهد اليوم مواجهة محتدمة، حتى لو كانت غير معلنة بالقدر الكافي، بين نوعين من الرأسمالية: رأسمالية منفلتة وخارجة عن النظم والترتيبات القانونية المفترض أن تكون مرعية في تسيير وتدبير شؤون النشاط الاقتصادي والمالي، على مستوى سياسات الدول الخاصة، وأيضاً على مستوى السياسة المالية الدولية بصفة عامة. ورأسمالية أخرى نظامية، هي التي تتوافق مع النظم والتشريعات وتستجيب للمعايير والقوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي والمالي. ومن واقع ضغوط وتدافعات هذه المواجهة بين الرأسمالية الشرعية والرأسمالية المتفلتة من الشرعية، يجد صانع القرار الاقتصادي وحتى المستهلك نفسه رهينة للتداعيات المترتبة على اضطراب الأسواق المالية، وأزماتها الدورية اللانهائية. وطبعاً يكون على المستهلكين العاديين، والأجراء البسطاء، وصغار الموظفين، أن يلعبوا هم من جانبهم دور الضحايا و"كباش الفداء" عندما يتأثرون سلباً بتداعيات أية أزمة مالية عالمية جارفة كتلك التي ضربت العالم منذ في أواخر سنة 2008، وما تزال أصداء وتبعات زلزالها تتردد حتى الآن. ويتساءل الكاتب في سياق تتبعه وبحثه عن مكامن الثقوب السوداء التي تنخر النظام المالي العالمي، وعن فاعلية الطبقة السياسية في مواجهة التصدي لطرق التهرب من الانصياع للنظم المالية الشرعية من خلال قنوات الالتفاف عليها كالملاذات الضريبية مثلاً. وهنا ينجز "روش" تحقيقاً استقصائيّاً عميقاً يمتد من باريس إلى هونج كونج، ومن جنيف إلى واشنطن، يتتبع فيه مظاهر التفلت من التشريعات، والقنوات الالتفافية التي تتسرب منها رأسمالية الظل الموازية الخارجة على القانون، ليتوصل من كل ذلك إلى نتائج مثيرة للقلق، بكل المقاييس. ذلك أن النظام المالي الدولي إن ظل فاقداً للفاعلية وهشاً إلى حد بعيد، فإنه قد يفتح في أية لحظة على الجميع أبواب الكوارث المالية، والاقتصادية، ذات الزخم الواسع والخطير. وبين دفتي كتابه هذا يرسم "روش" ملامح بعض أكثر الوجوه والشخصيات والهيئات تأثيراً في عالم رأسمالية الظل السفلي، فنتعرف مثلاً من خلاله على الوجه الآخر لبعض الملاذات الضريبية، مثل جزر كايمان، وخطر سطوة وكالات التصنيف، وأخطر من ذلك كله نتعرف أيضاً على بعض امتدادات وتوصيلات الحبل السري الذي يربط أحياناً كثيرة رجال عالم السياسة وعالم المال وفضائح وحيل بعض رجال البنوك وشركات التأمين الكبرى، وما يكتنف كل هذه التشابكات من أدوار المحامين، والصناديق السيادية، في تسيير النظام المالي الدولي وامتصاص صدماته الكثيرة. وللدلالة على حجم الكارثة التي حلت بالنظام المالي، والاقتصادي الدولي، بسبب تلاعبات رأسمالية الظل يخبرنا "روش" بأن منظمة التعاون والتنمية قد قدرت حجم الفاقد المالي المترتب على خطط إنقاذ البنوك والنظام المالي بأنها تقارب 11400 مليار دولار، وهو ما يعادل تحميل عبء مالي يبلغ 1676 دولاراً على كل فرد من سكان العالم أجمع. كما يركز بشكل خاص عند الضوء على العلاقات المثيرة للقلق حقاً بين رجال السياسة والمال في الاقتصادات الغربية الكبرى، على الدواعي الانتهازية التي تجعل بعض رجال السياسة يختارون في النهاية الوقوف إلى جانب الطرف الأقوى، أي العمل على إنقاذ الأغنياء ورجال البنوك المترنحة، وتحميل المستهلكين والأجراء العاديين تكلفة ذلك! وفي المجمل فإن هذا الكتاب يحمل بين دفتيه تحقيقات صحفية استقصائية حول آليات عمل الرأسمالية المالية، مميزاً بين نوعين منها: رأسمالية أنوار تسير وفق آليات شرعية وقواعد لعبة معروفة ومتفق عليها سلفاً، ورأسمالية ظل تلتف بألف طريقة وطريقة على النظم والتشريعات، وهي مصدر كل كارثة أو أزمة قد تحل بالنظام المالي العالمي. حسن ولد المختار ----- الكتاب: الرأسمالية الخارجة عن القانون المؤلف: مارك روش الناشر: ألبين ميشل تاريخ النشر: 2011