لم تعد صيغة الدولة- الأمة التي سادت السياسة والدبلوماسية الدولية طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين قادرة على الوفاء باحتياجات المواطنين. هذه هي الحقيقة التي خلص إليها" كارني روس" الدبلوماسي البريطاني السابق الذي استقال من منصبه احتجاجاً على تورط بلاده في حرب العراق والذي تفرغ بعد ذلك للعمل مع الحكومات الناشئة، والتعاون من أجل تعزيز حضورها في الساحة الدولية. وفي كتابه الذي نعرضه هنا، "ثورة بلا قائد... كيف يمكن للأفراد العاديين أن يستولوا على السلطة ويغيروا السياسة في القرن الحادي والعشرين"، يقدم "روس" نقداً حاداً للحالة التي توجد عليها السياسة الدولية حالياً، والصدع المتزايد بين من يملكون السلطة والقوة ومن لا يملكونهما. ويحتوي الكتاب على قدر كبير من النقد الذاتي؛ فـ"روس" كان واحداً من أعضاء النخبة الدبلوماسية البريطانية التي صعد في صفوفها بسرعة مشهودة، وفي سن صغيرة نسبياً، وتمتع كما يقول بما توفره من مكانة ووجاهه وراحة، وكان بإمكانه مواصلة الترقي إلى أعلى المراتب، لكنه قرر مغادرة السفينة في "الوقت المناسب". وبصفته موظفاً كبيراً في البعثة البريطانية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، كان روس مسؤولا عن شؤون العراق وتحديداً أسلحة الدمار الشامل ونظام العقوبات. ويقول إنه كان يدرك أن بلاده وحلفاءها يعرفون طيلة الوقت أن صدام لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل، وبالتالي فقد كانت العقوبات نوعاً من العقاب الجماعي الظالم للشعب العراقي وهو يذوق الأمرين على يد صدام وزبانيته. وفي عبارة مؤثرة حول هذه النقطة يقول المؤلف: "لقد كان ذلك من صميم عملي... لقد كنت أنا من شارك في ظلم الشعب العراقي". بعد ذلك ينتقل المؤلف لبحث أسباب "تآكل الحياة العامة"، مركزاً على العلاقة القديمة بين السياسة والسلطة والمال. وفي هذا الجزء يسرد الأثر التخريبي لجماعات الضغط التي يقول إنها تتخلل كل ركن في "وايت هول"(شارع مقر الخارجية والبرلمان البريطانيين) تماما كما تتخلل كل ركن من أركان "واشنطن دي سي". ورغم أن طرح المؤلف حول هذه الجزئية ليس بالجديد، فإن التفاصيل التي يوردها جذابة، ومنها أسماء شركات مثل ماكدونالدز، وبيبسي، وكرافت فوودز، وبي بي... قائلا إن القوانين واللوائح القانونية كان يتم التلاعب بها، وإن الموظفين والمسؤولين تتم رشوتهم لتمكين تلك الشركات من إبرام صفقات مربحة. وفي محاولة لإبراز أوجه الفساد السائد في المجال العام والسياسة الدولية، وإيراد أكبر عدد من الأمثلة، يكاد نسيج الكتاب يفقد تماسكه، إذ نجده يتحدث في سطر عما حدث في كوسوفو، ثم ينتقل في السطر التالي مباشرة للحديث عن " المجتمع الكبير" لكاميرون، قبل التحدث في السطر التالي عن العراق، وبعده ينتقل للحديث عن نظام الرعاية الصحية في أميركا. ورغم تلك المآخذ فالكتاب يمثل إسهاماً قيماً في السجال العام، إذ يدافع بشجاعة عن مصطلح "مجتمع بلا حكومة"، ويفرق بينه وبين مصطلح الفوضى قائلاً: إن الأول يحمل في طياته معنى إيجابياً، بينما يحمل الثاني معنى سلبياً لأنه يعني غياب القواعد والنظم غياباً تاماً. وهو يقول إنه يبحث عن صيغة وسطى لتحقيق الرشاد والاستقامة في المجال العام؛ صيغة تأخذ من اليمين تقديسه لحرية العمل الفردي وحرية التعبير، ومن اليسار فكرة التضامن والوحدة بين مكونات المجتمع. وفي نهاية الكتاب يقدم المؤلف "مانيفستو" يحتوي على عدد من النقاط الموجهة لمواطنيه لمساعدتهم على استعادة السيطرة على القرارات التي تؤثر على حياتهم، وهي: حدد أولويات العمل واعمل على تنفيذها، تعرف على من بيدهم الأموال والبنادق، افعل ما ترغب فيه إذا كان باستطاعتك، قدم ما تستطيعه من مساعدة للمحرومين والمحتاجين. والرسالة التي يوجها المؤلف لأعضاء النخبة هي أنه إذا لم يستمعوا ولم يتصرفوا في الوقت المناسب فسيدفعون الثمن، فالناس كلما شعروا بسيطرة أقل على ظروفهم ومستقبلهم، أصبحوا أكثر ميلاً للخروج إلى الشارع، والثورة على الأوضاع القائمة والمطالبة بالتغيير، دون أن يكونوا بحاجة لقائد وهم يفعلون ذلك. سعيد كامل ------- الكتاب: ثورة بلا قائد... كيف يمكن للأفراد العاديين أن يستولوا على السلطة المؤلف: كرين روس الناشر: سايمون آند شوستر ليمتد تاريخ النشر: 2011