تعتبر سنة 2011 سنة الارتفاعات بامتياز في المغرب، وهناك في نظري تفسير من شقين، شق خارجي وآخر داخلي، بالنسبة للمسببات الخارجية، فإن نسبة مهمة من الواردات المغربية تتمثل في المنتجات الفلاحية، والمنتوجات الزراعية الأساسية تمثل 80 في المائة من الواردات الفلاحية، فالمغرب يستورد بالدرجة الأولى الحبوب والقطاني وخصوصاً القمح، ثم يأتي فيما بعد وحسب الترتيب: السكر والشاي والقهوة والزيت والحليب. إذن على الصعيد الخارجي هناك ارتفاع مطرد لأثمنة المواد الفلاحية والمواد الأولية على حد سواء. ونذكر على سبيل المثال ارتفاع ثمن القمح السنة الماضية بنسبة 16 في المائة، وسعر الذرة بنسبة 87.5 في المائة، وأسعار الزيوت بنسبة 44 في المائة... كما دلت على ذلك مؤشرات بورصة شيكاغو العالمية المحددة لأسعار المواد الفلاحية. أما على الصعيد الداخلي، فيجد ارتفاع أسعار السلع والمواد الاستهلاكية أصله في ضعف القدرات الإنتاجية المحلية. وكمثال على ذلك، إنتاج الحبوب، فالمساحة المخصصة لإنتاجه تقدر بحوالي 5.3 مليون هكتار ولا يغطي إنتاجها سوى 54 في المائة من حاجيات المغاربة. وترجع هذه المعادلة غير المتوازنة إلى ضعف المساحة المخصصة لإنتاج الحبوب، والاختلالات المسجلة في تقسيم الأراضي. وإذا جمعنا بين العوامل الخارجية والداخلية، نخلص إلى عدم القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المواد، وبالتالي ارتفاع كلفة الحياة اليومية، حيث سجلت عشرين سنة الماضية ارتفاعات قياسية للأسعار في المغرب، خصوصاً أسعار الأسماك (130 في المائة)، والخضار (95 في المائة)، واللحوم (90 في المائة)، والحليب ومشتقاته (55 في المائة). وبطبيعة الحال فإنه تجب إعادة النظر في الخريطة الإنتاجية، باعتبار أن المغرب ركز مجهوداته على الفلاحة التصديرية لمدة عقود، مما أدى به إلى استيراد عدد من المواد الفلاحية ذات الأسعار المنخفضة مقارنة بالأسعار الداخلية، فكان هناك نوع من الإهمال للسوق الداخلي على حساب السوق الخارجي، كما أن تحسين الأداء الفلاحي يقتضي إعادة النظر في وضعية العقار الزراعي وعلاج إشكالية ندرة المياه في بعض المناطق التي لازالت تعتمد على الزراعة البورية. وهناك أيضاً إشكالية صعوبة الحصول على التمويل البنكي من طرف صغار الفلاحين. ثم إن ارتفاع أسعار السلع لم يواكبه ارتفاع في الأجور والرواتب، وهو ما نلمسه منذ عدة أعوام، بالإضافة إلى ارتفاع مؤشرات البطالة إلى 10 في المائة حسب الإحصاءات الرسمية، وانخفاض فرص العمل، مما يؤثر سلباً على القدرة الشرائية للأفراد، بل إن تقريراً صادراً عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «الفاو» حول مؤشرات الأمن الغذائي بالمغرب، بيّن أن عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص في التغذية بلغ 6 في المائة من إجمالي السكان، وأن مشكل سوء التغذية بلغ لدى الأطفال 10 في المائة. وفيما يتعلق بالإجراءات التي اتخذتها السلطات الاقتصادية المغربية للحد من ظاهرة ارتفاع الأسعار، خصوصاً المواد الأساسية منها، ينصرف الذهن إلى "صندوق المقاصة" (صندوق للدعم)، حيث يتعين هنا خلخلة وتفكيك المسلمات والاعتراف بما هو خاطئ. فآلية المقاصة في نظري تقوم بعكس ما خلقت من أجله تحديداً، وذلك باعتبار أنها أنشئت أساساً لتحقيق العدالة الاجتماعية ودعم القدرة الشرائية للفئات الأكثر هشاشة، لكن الملاحظ أن هذا الجهاز أصيب على مدى سنوات بأمراض بنيوية جعلت منه أداة لتبذير المال العام على حساب دافعي الضرائب وميزانية الدولة، وفي المحصلة على حساب الفقراء. ويعاني الصندوق حالياً من اختلالات عديدة يصعب حصرها، ومنها وجود ترسانة قانونية معقدة وغير متناغمة، وظاهرة إدمان عدد من الأطراف على الدعم مما يؤدي إلى تضخمه وتزايده بطريقة غير قابلة للضبط والكبح. إن الحاجة إلى الدعم تتفاقم وستتفاقم سنة بعد أخرى، وكلما ارتفع الدعم ارتفعت مطالب الجهات الراغبة فيه، وستجد الدولة نفسها مجبرة على الرفع من قيمة هذا الدعم سنة بعد أخرى. وهنا نذكر أن الدعم في المغرب ارتفع من 4 مليارات درهم مغربي سنة 2002 إلى 26 مليار درهم سنة 2010، ثم إلى 33 مليار درهم سنة 2011، ويتوقع أن يصل 40 مليار درهم في السنة المقبلة، حيث كان يمثل في 2002 حوالي 0.9 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي فصار يمثل 5 في المائة سنة 2010، أي ما يعادل 80 في المائة من الميزانية المخصصة للاستثمار. وعليه فإن الدعم يتم على حساب الاستثمار في المشاريع المستقبلية المدرة للدخل والموفرة لفرص العمل، كما أن هذه الظاهرة تفاقم عجز الميزانية وتؤدي إلى تضخم المديونية، وبالتالي فدافع الضرائب هو المتضرر الأول من كل ذلك. ومن التناقضات الصارخة لصندوق المقاصة الذي كان يهدف إلى دعم القدرة الشرائية للفقراء، نلاحظ أن 20 في المائة الأكثر غنى في المغرب يستفيدون من 75 في المائة من دعم صندوق المقاصة، وأن 20 في المائة الأكثر فقراً يستفيدون من 1 في المائة فقط. وتعتبر كبريات الشركات المتخصصة في المشروبات الغازية والحلويات، بالإضافة إلى عدد من الشركات الخاصة وكبار المنتجين والموزعين، هم الأكثر استفادة من جهاز المقاصة. على ضوء ذلك فإنه ينبغي إعادة التفكير في سياسة الدعم، سبلها وطرقها. ومن الحلول الناجعة، في نظري، وضع سياسات استهدافية للفئات الأكثر هشاشة كمرحلة أولى، أي التركيز على دعم يستهدف الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً عوض دعم الفئات الأكثر غنى، وذلك لتفادي تحويل الأموال عبر جهاز إداري بيروقراطي، ثم التفكير في سياسة الدعم العكسي، والتي تقتضي عدم توزيع النقود على المستفيدين بل دعمهم عن طريق خفض الأعباء والضرائب وتقديم التحفيزات والتسهيلات للمنتجين والموزعين، وتحسين فضاء الأعمال والاستثمار وجعله أكثر جاذبية. ------- نوح الهرموزي محلل اقتصادي ومدير مشروع "منبر الحرية" -------- ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"