المطالبة بالديمقراطية ليست عاطفة جياشة، بل هي حالة يراد أن تسود المجتمعات التي تعاني من ضيم الديكتاتورية وإفرازاتها التي لم تعد خافية على أحد. ومن يظن بأن هذه الحالة المنشودة ستحل فوراً على تلك المجتمعات المتحركة يجانبه الصواب، هكذا وبدون أي مقدمات لوضع الأسس السليمة للتخلص من ثقل ميراث العقود السالفة من الظلم وحكم الفرد أو الحزب الأوحد. لأن الأنظمة السابقة في تلك الدول لم تسمع بالتثاقف الديمقراطي، فكل ما كان يحدث في المجتمع هو الاتجاه نحو طريق من مسرب واحد لا يمكن العودة إلى الخلف من خلاله. من معاني الديمقراطية الاجتماعية قبل السياسية هو السماح لحل أي إشكالية بأكثر من رؤى حتى لا تكون رؤية الشخص الأوحد هي الحل القطعي لكل المشكلات الحيوية. من هنا نرى بأن عملية التثاقف الديمقراطي بحاجة إلى وقت أطول من مجرد البدء في أي نوع من أنواع الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو البلدية، فهذه إجراءات سهلة مقارنة بعملية دمقرطة المجتمع بما فيه. والدليل من ذات المجتمعات التي زالت أنظمتها في وقت قياسي فكانت الأحزاب موجودة والانتخابات ماضية والبرلمانات قائمة، إلا أنه مع ذلك كانت الأوضاع متردية حتى وقعت الواقعة. فالحديث عن هذا الأمر للترشيد والعقلنة، فاستمرار حراك تغيير لأشهر متواصلة دون التوقف لالتقاط الأنفاس لا يعني بالضرورة حصول المجتمع على مبتغاه في سياسة ديمقراطية منشودة. لأن الديمقراطية في العالم العربي بشكل عام بحاجة إلى بناء ثقافي متزامن مع وقع الأقدام، وهذا ما لم يحدث طوال العقود الماضية، لأن هناك أجهزة مفصلية لابد أن تتحمل هذا العبء المجتمعي، وعلى رأسها التربية والتعليم والإعلام وغيرها من القنوات المجتمعية التي تعوّل عليها بناء الثقافة الديمقراطية بل الدخول إلى أتون الأنظمة واللوائح والقوانين المنظمة لحركة المجتمع ككل. ولو أخذنا التغيير في مصر نموذجاً، فقد تم تغيير بعض نصوص الدستور وهو المسؤول الأول عن الديمقراطية الحقيقية في أي مجتمع، لم يأخذ من الوقت غير أيام معدودات ولكن الرتم اليومي للحياة لا زال يراوح مكانه لتفعيل تلك المواد في الواقع وهي التي بحاجة إلى زمن أطول، لأن مجرد أي تغيير نص أو نصين في مثل هذه الظروف الصعبة لا يعني بأن الديمقراطية حلت رأساً مكان الديكتاتورية. فالثقافة الديمقراطية مفعولها أعمق من الثقافة السياسية العامة، فقبول الآخر المختلف أمر ثقافي في الأصل وليس سياسياً، فإذا لم يتم ترسيخ هذا المبدأ عبر الحراك الثقافي الحر فإن تعليق ذلك على شماعة السياسة أمر غير مجدٍ، فمن لا ترغب فيه فكراً مختلفاً فكيف ترضى به حاكماً ديمقراطياً، ترى أليس هذه إشكالية الواقع العربي بشكل عام. فالمجتمع العربي ليس بحاجة فقط إلى حاكم ديمقراطي، بل أيضاً إلى رب أسرة يمارس الديمقراطية مع جميع أفراد الأسرة ومعلم ديمقراطي يقبل الحوار والاختلاف مع طلابه ومدير ديمقراطي لا يرفع سلاح القوانين واللوائح في وجه مرؤوسيه، أي تقديم العقاب قبل معرفة ما في الكتاب. فإن لم يتم التعامل مع كل تلك الجزئيات عبر المسار الديمقراطي، فإن العملية السياسية وحدها لا تغني عن بقية المراحل التي ينبغي أن تتزامن مع العملية الكلية. فحراك الديمقراطية من دون ثقافة ديمقراطية ومؤسسات مدنية قوية لا يضمن رسوخ الديمقراطية، بل قد ينتهي إلى استغلال الحراك من جانب جهات غير ديمقراطية.