من كان يصدّق أن يمثل الحاكم، الآمر الناهي في مصر، أمام الشعب ليسمع كلمته في الحكم الذي مارسه طيلة ثلاثين عاماً. ومن كان يصدّق أن يتخلى عنه جهاز الأمن والجيش، ويصبح وحيداً مع قلة من أتباعه الذين زينّوا له الطريق للرجوع بمصر إلى دوائر الارتباك، بحيث تراجع دورها الريادي في قيادة الأمة العربية. كنا نعتقد أن الثورات العسكرية تهدأ وتحد من سلوكها العسكري بعد عشرة أو عشرين عاماً، وأن تبادر بعد أن تتغيّر الأحوال إلى تغليب الحكم المدني، وإقامة المؤسسات التي تعنى بحياة الناس وكرامتهم، ومحاربة الفساد بكافة أشكاله! لكن الوضع في مصر كان مختلفاً – شأنه شأن معظم الثورات العربية التي عشقت الشعارات وتبلد حسّها وسلوكها عن العمل الشاق لخدمة الإنسان والأمة – ليس عن الأوضاع في بقية بلدان العالم العربي، بل عما يجب أن تكون عليه الثورات. ماذا استفاد مبارك من عناده لشعبه؟ إن في تلك المحاكمة التي بُثت خلال الآونة الأخيرة عبر وسائل الإعلام مباشرة وهو على سرير المستشفى رسالة واضحة لكل من يسيرون ضد التاريخ وضد رغبات شعوبهم. وبذلك تسجل تلك المحاكمة أول حادثة من نوعها لرئيس دولة على يد شعبه. نعم إنها رسالة لكل الظالمين الذين لا يقرؤون صحائف التاريخ ، ويتمترسون خلف الأسوار العالية، ولم تكن هنالك أسوار أعلى من تلك التي تمترس خلفها (مبارك) ولا صداقات "أعزّ" وأقوى من صداقاته مع الخارج. ولنا في (ماركوس) الفلبين و(شاه إيران) المثال الأوضح في التمترس وراء الغرب الذي قلب لهم ظهر المجنّ. في عالم السياسة لا تدوم الصداقات بقدر ما تتصارع المصالح. والمصالح ليست قواعد ثابتة إنها عوالم متحركة، كما أن القوة ليست في كل الأحوال ضامنة للسلطة. لا شك أن المحاكمة انتصار لثورة مصر التي قطعت الطريق على خطة مبارك للتوريث، والإمعان في امتهان الشعب المصري، الذي صبر كثيراً وأدمت عيونه من انتظار لحظة الخلاص والعيش بكرامة مثل الشعوب الأخرى. لقد عاصر الشعب المصري أبناء الرئيس السابق وهم يثرون على حساب الشعب المصري، ويحيطون أنفسهم بمجموعة تأكل رغيف الشعب المصري، بل وأتى أحد أبنائه باتباعه من رجال الأعمال وأدخلهم البرلمان والحكومة، وعملوا على خصخصة الاقتصاد المصري. ولئن كان (علاء مبارك) قد يئس من مجاراة أخيه (جمال) في السياسة، فهو أيضاً بحكم موقعه العائلي قد كوّن ثروة هائلة من خلال شركات وهمية قامت على الفساد. ماذا سينقص مبارك لو سمع نصائح المخلصين العرب الذين نصحوه بالتنحي وقضاء البقية القصيرة من عمره في قصر؟. ماذا سينقصه لو ختم حياته المهنية – كقائد للطيران في حرب أكتوبر – بأن يشكر الشعب المصري الذي سانده خلال فترة حكمه الطويلة، ويدعو لحقبة جديدة من الحكم تقوم على انتخابات حرة تشارك فيها كل الأطياف المصرية؟! بالطبع سوف ينال احترام الشعب المصري واحترام العالم، ولتجنب ذلّ المحكمة التي هي حق من حقوق الشعب المصري. لكن إغراء الكرسي جعله حتى النهاية يساوم ويغامر حتى أوصله ذلك إلى السجن وهو في هذا العمر. ولقد سبق للعرب الأخيار نصح دكتاتور العصر صدام حسين بالرحيل، بعد أن ذاق شعبه الويلات، لكنه تمسك بجنون العظمة وتمترس خلف الحرس الثوري والمخابرات اللذين تلاشيا بعد دخول القوات الأميركية ساحة الفردوس عام 2003. إن الشعوب عندما تقول كلمتها لا بد أن يسمعها ولي الأمر! وهذا كان من مبادئ الشورى في الإسلام. وإذا كان هنالك اعوجاج في الحاكم فلا بد من تقويمه. ولقد صّرح أحد الخلفاء الراشدين بذلك! فهل من حاكم عربي في مقام الخلفاء الراشدين؟ لا أحد يحمي أحداً إذا كان يسير في طريق الشر، ولقد أثبتت الوقائع أن الجيش وغيره من المؤسسات القوية تتلاشى أمام مطالب الشعوب! ولنا في المثال المصري والتونسي والليبي واليمني والسوري خير دليل، وإن تفاوتت المشاهد واختلفت النسب. دخل حكم مبارك وراء القضبان في محاكمة العصر. وبدأت حقبة باتجاه التعديل والديمقراطية الصالحة لمصر، وبتفكيك شبكات الفساد وكشف رموزه ومحاكمتهم، وتنتهي ببناء المؤسسات المدنية، والتعددية المتصالحة، وإرساء القضاء النزيه. لقد تآلف رجال الحكم السابق في مصر على إشاعة الفساد والعبث بتاريخ مصر ومواقفها المشرفة تجاه القضايا المصيرية، وأهمها الصراع العربي- الإسرائيلي ووحدة الصف العربي. واليوم جاء الوقت كي تعود مصر إلى دورها المشرف، بعد أن يطوي الشعب المصري صفحة (مبارك) وأعوانه، ويتفرغ للبناء والتطلع لمستقبل آخر غير الذي عايشه حوالي ستين عاماً من عمر الثورة. أكاديمي وإعلامي قطري Hamsalkhafi57@hotmail.com www.ahmed-abdulmalik.com