يتحطم القلب إذ نشاهد ذوي ضحايا كارثة 11 سبتمبر ينادونهم في احتفال مؤثر جعلته الحروب الانتقامية التي قتلت ملايين الأبرياء أشبه بمسرحية مأساوية لوليام شكسبير "حكاية يرويها أبله، مملوءة بالصخب والعنف، لا تعني أي شيء". هكذا تبدو كارثة 11 سبتمبر في ذكراها العاشرة؛ مسرحية مأساوية من إبداع شكسبير. وهل هناك أشدّ بلاهة من شريط تلفزيوني أطلقته واشنطن هذا الأسبوع يتضمن تفاصيل قتل بن لادن، ورمي جثته في البحر، دون اعتقال أو استجواب أو إذن من باكستان التي وقعت العملية في أراضيها؟ الإدارة الأميركية، المسؤولة عن قتل ملايين المسلمين بأبشع الطرق منذ 11 سبتمبر ذكرت أنها تخلصت بسرعة من جثة بن لادن مراعاة لتقاليد المسلمين في دفن الميت قبل مرور 24 ساعة على وفاته، ورمت الجثة في البحر تجنباً لإيجاد ضريح يؤمه أتباعه! وواشنطن تنفق على ملاحقة أتباع "القاعدة" 80 مليار دولار سنوياً، حسب الأدميرال دنيس بلير، مدير المخابرات الأميركية في عهدي بوش وأوباما. وعند تقسيم المبلغ على عدد الإرهابيين، المقدر بما بين ثلاثة وخمسة آلاف، نخرج بالنتيجة التالية: "واشنطن تنفق ما بين 16 مليوناً و27 مليون دولار سنوياً على كل إرهابي محتمل". ذكر ذلك ديفيد كول، أستاذ القانون في "جامعة جورجتاون"، والذي ذكره في مقاله بصحيفة "ذي نيويورك بوكس ريفيو" أن المبلغ يتقّزم بالمقارنة مع نفقات المخابرات الهائلة في العراق وأفغانستان. و"المال السايب يعلّم على الحرام" كما يقول المثل العراقي. ولا حرام أشنع من هدر تريليونات الدولارات على حروب 9/11. في العام الأول لغزو العراق اختفى مليار دولار من حسابات شركة "كي بي آر" KBR التي تولت مقاولات الحرب، وبدلاً من التحقيق في الموضوع استغنى الجيش الأميركي عن تشارلز سميث الذي أبلغ عنها. "وفي سجلات التربح بحرب العراق سيُذكر اسم تشارلز سميث كأحد ضحاياها"، ذكرت ذلك افتتاحية صحيفة "نيويورك تايمز" حول الفضيحة. والآثام الكبرى من أعمال شركات كبرى، مثل "بلاك ووتر" و"داينوكورب"، عهدت إليها واشنطن بمقاولات التجسس والتحقيق مع المعتقلين، فارتكبت أعمال القتل والاغتصاب، وتجهيز ماسحات أمنية عاطلة في المطارات، أو جدران حدودية لا تحد حتى هياكلها. جون ميلر، الأستاذ في "جامعة أوهايو" الحكومية، يعتبر "تشكيل هذه الصناعات بالكامل كارثة، لكن لا أحد يريد التحدث عنها". ومن يتصدى لما يُسمى "المجمع الصناعي الأمني" الأميركي الذي شبك الحكومة و"البيزنس"، حسب تقرير مراسل صحيفة "الغارديان" في نيويورك. في قلب هذا المجمع تقوم "البوابة الدوارة" ما بين الأجهزة العسكرية العليا و"البيزنس". جنرالات، ومسؤولون حكوميون كبار، ورؤساء وكالات تجسسية، ينتقلون أسراباً إلى القطاع الخاص، وينخرطون في مهن جديدة لبيع الخدمات للأجهزة الرسمية التي كانوا يعملون بها. بين من استأجرتهم الشركات الأمنية جيمس ووزلي المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، ووليام ستودمان المدير السابق لوكالة المخابرات القومية. ويتولى المتعاقدون حالياً معظم تجهيزات القوات المسلحة، وعمليات الطيران العسكري وبناء الهياكل الارتكازية. وثلث أعمال وكالة المخابرات المركزية تقوم به حالياً الشركات الخاصة. وفي حين تعاني أميركا من الركود الاقتصادي، يشهد قطاع الأمن ذروة الازدهار، حيث تضاعفت مرتين موازنة التجسس الأميركية منذ عام 2001 وبلغت في العام الماضي ثمانين مليار دولار. وحققت واشنطن خلال العقد الماضي أرقاماً قياسية عالمية في بناء الأجهزة البوليسية لا مثيل لها في التاريخ. 260 مؤسسة أمنية جديدة حكومية أنشئت منذ عام 2001، أكبرها "وزارة الأمن الداخلي" التي يعمل بها 230 ألف موظف، ويعادل حجم مكاتبها الجديدة التي ينتقل إليها قريباً مبنى "البنتاغون". وكشف مسح أجرته صحيفة "واشنطن بوست" وجود 1271 مؤسسة أمنية حكومية، و1931 شركة خاصة تعمل في الأمن الداخلي، وتنتشر المكاتب الأمنية في 10 آلاف موقع داخل الولايات المتحدة، ويبلغ عدد الأميركيين الذين يملكون أذونات أمنية سرية 845 ألف شخص، وعددهم في القطاع الخاص ربع مليون. ويعادل عدد المتعاقدين العاملين لحساب القوات الأميركية حول العالم عدد أفراد القوات المسلحة نفسها، بينما كانت النسبة واحداً إلى ثمانية خلال حرب فيتنام. وحتى الرقابة على أعمال التعاقد موكلة لشركات متعاقدة. ومن ينسى بلاهة المنتشين بحروب 9/11 الذين كانوا يفسرون سبب إقدام واشنطن على غزو العراق "لأننا نستطيع"! لكن "هل تستطيع الولايات المتحدة التخلص من نرجسية 9/11؟"، عنوان مقالة للكاتب الأميركي غاري يونغ تحدث فيها عن ثلاثة أمور اتضحت خلال العشر سنوات الأخيرة: محدودية قدرة واشنطن العسكرية، وتدهور موقعها الجيوبوليتيكي، واستقطاب ثقافتها السياسية. "لقد أثبتت عجزها عن الفوز بحروب تختار خوضها، وعن تحمل نفقاتها، وإخفاقها في التوصل إلى أي توافق حول لماذا". ويفسر يونغ فورة حماس الجمهور الأميركي لنبأ قتل بن لادن بأن "كل رد أميركي على 9/11 اعتبر فشلاً كلياً". ولن يغير قتل بن لادن قناعة ثلث الأميركيين الذين يعتقدون حسب استطلاع للرأي العام بأن إدارة بوش ضالعة في أحداث 9/11، إما بالتغاضي عمّا حدث، أو بالتورط فيه لتبرير غزو العراق. وأكثر النظريات انتشاراً تفسر انهيار برجي مركز التجارة نتيجة تفجير داخلي متعمد، وقد تم التحكم من بعيد بمسار الطائرتين للارتطام بالبرجين. ولم يغير تقرير رسمي صدر عام 2009 لتفنيد الاتهامات القناعات الراسخة، لاسيما أن بين المشككين بالرواية الرسمية أكاديميون ومسؤولون وعلماء ومهندسون. أشهر المشككين ديفيد غريفين، أستاذ فلسفة الأديان والعلوم في "جامعة كليرمونت" بكاليفورنيا، وقد أصدر عشرة كتب تفند الرواية الرسمية. وتناول في كتابه الأخير وعنوانه "9/11 بعد عشر سنوات"، أسباب تقاعس إدارة واشنطن والمؤسسات الإعلامية الأميركية الكبرى عن تقصي حقائق ما حدث. ويتناول كتاب "الانهيار الغامض لمركز التجارة العالمي 7" لغز انهيار هذه البناية الواقعة قرب البرجين التوأمين. ونادراً ما تذكر هذه البناية التي تتكون من 52 طابقاً انهارت بالكامل كالبرجين بعد ساعات من انهيارهما من دون أن تصيبها طائرة، وأمكن إنقاذ جميع ساكنيها. ويعتبر جون وينذام، الباحث الفيزيائي في "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" قراءة كتاب غريفين واجبة على "العلماء والمهندسين والمعماريين، وكل من يهمه أن يستعيد العلم مكانه الصحيح في ديمقراطيتنا". ويذكر دانييل كينسر، أستاذ الدراسات الأمنية في "المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا" في زيورخ بسويسرا، أن غريفين لا يدّعي معرفة حقيقة ما جرى، لكنه يمحص أكاذيب إدارة بوش والبنتاغون. وحتى إذا اعتبرنا الاستقصاءات صادرة عن نظرية المؤامرة، فكيف نفسر حروب 9/11 التي دمّرت حياة ملايين الناس، وكلفت تريليونات الدولارات؟ العجز عن رؤية ذلك كمأساة "الملك لير" بطل مسرحية شكسبير: "لا طريق أمامي لذا لا أريد عينين؛ فأنا أتعثر عندما أرى".