هناك إجماع بين المفكرين والباحثين على أن الثورة هي ذروة الاحتجاج السياسي الموجه ضد الأنظمة الشمولية والسلطوية التي تمارس احتكار عملية صنع القرار، حتى تكون في خدمة الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأهل السلطة وطبقة رجال الأعمال من الفاسدين، بالإضافة إلى تقييد الحريات العامة وقمع الجماهير، ومحاصرة كل المبادرات السياسية والاجتماعية التي تسعى لتحرير المجتمع من الأغلال التي تعوق حركته. ولو تأملنا دلالة الثورة المصرية التي قام بها الشباب يوم 25 يناير، والتحمت فيها جموع الشعب المصري بكل فئاته الاجتماعية وأطيافه السياسية، لأدركنا مصداقية ما ذكرناه بأنها في الواقع تمثل ذروة الاحتجاج الثوري ضد النظام السلطوي المصري السابق الذي قاده "مبارك" وأعوانه من السياسيين الذين أفسدوا الحياة السياسية، ورجال الأعمال الذين نهبوا الثروة المصرية، ومثقفو السلطة الذين كانوا يبررون كل القرارات المنحرفة والفاسدة التي تصدر عنها. وهذا الاحتجاج الثوري العنيف الذي أدى إلى إسقاط النظام وتنحية الرئيس السابق ثم محاكمته هو ورموز نظامه محاكمة علنية شهدتها الملايين، سبقت احتجاجات سياسية متعددة. وتمثلت هذه الاحتجاجات في ظهور حركات سياسية جديدة قررت النزول إلى الشارع لتحريك الجماهير، بدلاً من النقاشات العقيمة داخل الغرف المغلقة، وعوضاً عن المساومات التي كانت تبرمها أحزاب المعارضة المستأنسة مع النظام السابق. ليس ذلك فقط، بل ظهرت احتجاجات اجتماعية عنيفة قام بها العمال والموظفون مطالبين فيها بحقوقهم الاقتصادية والمالية المهدرة. ونجحت بعض هذه الاحتجاجات في إجبار الحكومة على الرضوخ لطلبات من قاموا بها. كانت هذه الحركات السياسية والاحتجاجات الجماهيرية توجه ضرباتها العنيفة لدعائم النظام السلطوي، ثم جاءت ثورة 25 يناير لتقضي على النظام القديم بضربة حاسمة، بعد أن رفعت الشعار الذي ذاعت شهرته في أرجاء العالم من بعد: "الشعب يريد إسقاط النظام". غير أن الاحتجاج الثوري الذي مثلته ثورة 25 يناير لم يتوقف بعد حدوث الثورة، ذلك لأن هذه أول ثورة في التاريخ لم يتح فيها لمن قاموا بها أن يحكموا مباشرة. فقد تولى إدارة شؤون البلاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي كلف "عصام شرف"، القادم من ميدان التحرير مسلحاً بشرعية الثورة، لتشكيل الوزارة. لكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، بل بداية سلسلة من الاحتجاجات الثورية التي لم تنقطع منذ قيام الثورة، والتي اتخذت شكل المظاهرات "المليونية". لماذا لم تتوقف موجات الاحتجاج الثوري بعد الثورة؟ الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تأمل حالة الوعى الثوري لدى شباب الثورة، والذي يتمثل أساساً في السعي إلى تحقيق ديمقراطية مصرية غير مسبوقة. وهذه الديمقراطية التي تبدو أشبه بحلم بعيد المنال تقوم على أساسين، أولهما هو التصميم الشعبي على المشاركة الفعالة في اتخاذ القرار، وذلك بحد ذاته يعد رفضاً للنموذج السلطوي في احتكار عملية صنع القرار، وثانيهما هو الرقابة اليومية الدائمة على تنفيذ القرارات. بعبارة موجزة أرادت جموع شباب الثورة ممارسة نوع من الديمقراطية المباشرة من خلال مظاهرات ميدان التحرير، بحيث تصبح السياسة وأمورها ليست مهمة مجموعة من رجال السياسة المحترفين، سواء أكانوا معينين أم منتخبين، بل مهمة جموع الشعب ممثلة في طلائعه الثورية التي سبق أن رفعت شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهكذا توالت "المليونيات"التي تعددت أسماؤها، وتنوعت شعاراتها من "جمعة الغضب" إلى "جمعة تصحيح المسار" وهو اسم آخر مليونية. غير أن هذه "المليونيات" سرعان ما فقدت طابعها الثوري الأصيل، والذي كان يكشف عن التوافق السياسي لجماعات الثورة المختلفة على المطالب، فقد حدثت انشقاقات بين التيارات الدينية والتيارات الليبرالية. وليس أدل على ذلك من أن المليونية الأخيرة قاطعتها التيارات الدينية. غير أنه أخطر من هذه الانشقاقات السياسية، تحول المظاهرات الثورية إلى عنف جماهيري جامح أصبح يهدد أسس الدولة ذاتها. ولو نظرنا إلى المليونية الأخيرة لاكتشفنا أن قادتها أعلنوا توجه المظاهرات إلى دار القضاء العالي للمطالبة باستقلال القضاء، وإلى السفارة الإسرائيلية للاحتجاج على وقائع حوادث الحدود ومصرع جنود مصريين، وإلى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين في حوادث مشجعي الكرة "الألتراس" والتي دارت فيها معارك شوارع عنيفة بينهم وبين قوات الأمن. وهذا التخطيط الفوضوي كان هو المقدمة لأحداث العنف الجماهيري التي وقعت أمام السفارة الإسرائيلية وسقط فيها جراء المواجهة مع قوات الأمن أربعة قتلى وأكثر من ألف مصاب. وفي نفس الوقت حاولت المظاهرة الأخرى التي توجهت إلى وزارة الداخلية اقتحام مبنى الوزارة، بعد نزع شعارات الشرطة من على الأبواب الخارجية، وحدثت أيضاً مواجهات دامية. وللأسف فإن عدداً من المثقفين والإعلاميين لم يستطيعوا الارتفاع إلى مستوى نقد مخططات شباب الثورة في هذه المليونية التي انحرف مسارها بحق، كما عبرت عن ذلك جريدة "الشروق"، وهي الوحيدة تقريباً التي اقتربت من الوصف الموضوعي لما حدث. لقد حاول هؤلاء الإعلاميون والمثقفون إلقاء اللوم ليس على الانحراف الواضح في التخطيط للاحتجاجات الثورية التي نظمها شباب الثورة وأدت بالضرورة إلى أحداث العنف الجماهيرية الدامية، وإنما على عاتق المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة بقيادة "شرف". لقد آن أوان المصارحة. فهذه المظاهرات "المليونية" التي يحتشد فيها مئات الآلاف لا يمكن لأي قوة سياسية السيطرة عليها أو وضع حد لجموحها وأفعالها المتطرفة، بل وسلوكها الذي ينحو إلى التخريب المتعمد ليس للمؤسسات العامة فقط، ولكن لقيم الثورة ذاتها والتي قامت لتحرير الوطن من الاستبداد وليس لهدم أسس الدولة أو الهجوم غير المبرر على الأمن، أو للتحرش بالجيش. ومن هنا يمكن القول إن مسيرة الاحتجاجات الثورية أياً كانت شعاراتها ومطالبها المشروعة قد وصلت إلى منتهاها بعد أن تحولت إلى مظاهرات تنزع إلى التخريب شبه المتعمد للمؤسسات، والعدوان على قيم الثورة الأصيلة. وما ينبغي أن يدركه شباب الثورة ومن يقفون وراءهم من الإعلاميين والمثقفين أن السياسة لا يمكن أن تصنع في الشارع، لأن القرارات وخصوصاً ما يتعلق منها بالأمن القومي، تخضع لإملاءات وحسابات بالغة الدقة. وهكذا فالهجوم على السفارة الإسرائيلية هو عمل غير مسؤول، أصاب سمعة مصر الدولية باعتبارها عاجزة عن حماية السفارات الأجنبية، وهو التزام عالمي تحترمه كل الدول المعاصرة. نحن بحاجة إلى وقفة نقدية مع شباب الثورة، لأن تطبيق قانون الطوارئ الذي أعلن عنه أخيراً لا يمكن أن يكون هو الحل، لأن الحل الحقيقي لا يمكن أن يتبلور إلا من خلال حوار جاد ومسؤول بين قوى الثورة الحقيقية وليس المزيفة، من هؤلاء الذين ركبوا موجتها وأصبحوا يديرون الحركة السياسية بعيداً عن أهداف الثورة الحقيقية.