بزيادة الأجور للمواطنين القطريين وبنسبة كبيرة تراوحت ما بين 60 في المئة للمدنيين و120 في المئة للعسكريين، تكون قد اكتملت حلقات زيادة الأجور في كافة دول مجلس التعاون الخليجي، مما أدى إلى تحسين مستويات المعيشة والتقليل من تداعيات الضغوط التضخمية الناجمة عن ارتفاع الأسعار. وتعتبر سياسات الأجور والرواتب أحد أهم الأدوات الاقتصادية التي تترتب عليها انعكاسات مهمة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، مما يتطلب إيلاءها أهمية كبيرة، فبالإضافة إلى مستويات المعيشة، فإن لهذه القضية انعكاسات على مستويات الطلب في الأسواق المحلية وعلى عمليتي الإنفاق والادخار والكتلة النقدية والوظائف وجذب الاستثمارات الأجنبية والقدرة التنافسية للمنتجات الوطنية في الأسواق الخارجية. وحتى الآن، فإن الأجور في دول المجلس أخذت طابعاً تصاعدياً، إذ لابد هنا من الأخذ بعين الاعتبار كافة العوامل المؤثرة في سير النمو الاقتصادي، خصوصاً وأن هناك تجارب عالمية استخدمت فيها سياسات الأجور لتحفيز النمو وزيادة الصادرات وتطوير العديد من القطاعات الاقتصادية التي تتناسب وقدرات الدول. وإذا ما أخذنا إحدى استراتيجيات دول المجلس بعيدة المدى والرامية إلى تشجيع المواطنين للعمل في القطاع الخاص، على اعتبار تشبع القطاع العام منذ سنوات من جهة وللفرص المتنامية التي يوفرها القطاع الخاص بفضل تنامي أعماله وزيادة دوره التنموي من جهة أخرى، فإن سياسات الأجور الحالية تحد من مثل هذا التوجه المهم والذي تسعى دول المجلس إلى تحقيقه من خلال تشجيع الموطنين على العمل في القطاع الخاص. لقد ساهمت الزيادات الكبيرة في الأجور في البلدان الخليجية الستة في توسيع الهوة بين الأجور في القطاعين العام والخاص وجعلت أنظار الخليجيين تتجه من جديد للعمل في القطاع الحكومي، حيث عبر عدد من المواطنين القطريين العاملين في القطاع الخاص عن حلمهم بزيادة رواتبهم، كما هو حال زملائهم العاملين في القطاع الحكومي، بينما لا توجد أنظمة تلزم القطاع الخاص بزيادات مماثلة للعاملين لديه. هذه إحدى الإشكاليات التي لابد من معالجتها للمواءمة بين سياسات الأجور والتوجهات التنموية لدول المجلس، بحيث تخدم هذه السياسات التطلعات الاستراتيجية والتي تشكل أهمية تنموية كبيرة على المدى البعيد. ولا ندعي هنا بأن الحلول سهلة ومتاحة بسرعة البرق، إلا أن هذه الإشكالية يمكن حلها، خصوصاً وأن القطاع الخاص الخليجي بات مسيطراً على مفاتيح اقتصادية حيوية، كالقطاع المالي والمصرفي والتجارة والخدمات، كما أن أعداد الشركات الخليجية المساهمة في ازدياد سنة بعد أخرى، وهو تطور إيجابي ينم عن المرونة التي تتميز بها الاقتصاديات الخليجية. وضمن الحلول الممكنة، هناك الحوافز المؤقتة التي تقدمها الدول للمواطنين العاملين في القطاع الخاص وتحديداً في بداية الالتحاق بالعمل في هذا القطاع، كما يمكن إعفاؤهم من بعض الرسوم والضرائب لتقريب الفروقات الناجمة عن زيادة الأجور في القطاع الحكومي، مما سيساعد على إعادة التوازن لسوق العمل الخليجي، والذي سيشهد دخول مليون خريج خليجي من الجامعات والمعاهد والمدارس العليا في السنوات الخمس القادمة. وكما تشير العديد من الدراسات، بما فيها تلك الصادرة عن وزارات العمل في دول المجلس وبعض المنظمات الدولية، فإن أسواق العمل الخليجية ستشهد في السنوات القادمة زيادة كبيرة في طلبات العمل من المواطنين الخليجيين والذين لا يمكن استيعابهم جميعاً في أجهزة الدولة، حيث تعول دول المجلس على القطاع الخاص للمساهمة في إيجاد فرص عمل للمواطنين. ويبدو أن القطاع الخاص الخليجي قادر على توفير الكثير من فرص العمل، إلا أن إصلاح سوق العمل مسألة ضرورية لإنجاح مثل هذا التوجه، وبالأخص إعادة التوازن لسياسات الأجور في الفترة القادمة. د. محمد العسومي