حلّت الذكرى السنوية العاشرة لعدوان "القاعدة" على الولايات المتحدة الأميركية واستعاد الأميركيون ذكرياتهم الحزينة على أحبائهم الذين تساقطوا صبيحة ذلك اليوم المأساوي الحزين 2001/9/11، ثلاثة آلاف إنسان بريء وفيهم مسلمون ومسيحيون ويهود وآخرون من مختلف الأديان، ذهبوا من غير ذنب أو جريرة! وفي حين تبادل زعماء "القاعدة" وأتباعها وأنصارها التهاني والتبريك وسجدوا لله تعالى حمداً على "النصر المبين" وأشادوا بالمنفذين المعتدين وأطلقوا عليهم "العظماء التسعة عشر"، كما وصفوا عملهم الإجرامي بغزوة من غزوات المسلمين المجيدة، فإن الأميركيين استفاقوا من الصدمة ليتساءلوا: ماذا فعلنا حتى يكون هذا جزاؤنا؟ ما الذي دفع هؤلاء الشباب -"الملتزمون دينياً"- إلى هذا العمل الإجرامي؟ كانت الصدمة شديدة عليهم، ذكّرتهم بكارثة "بيرل هاربر" حيث تم تدمير الأسطول الأميركي وقتل الآلاف إثر الهجوم الياباني المباغت عام 1941 على الضفة الأخرى من القارة الأميركية. في العالمين العربي والإسلامي، تفاوتت الإجابات وتعددت بين النخب السياسية والفكرية والإعلامية والرأي العام العربي والإسلامي، بين من ينكر أن هذا من فعل المسلمين ويذكر الشواهد المؤيدة على أنه من تدبير "الموساد" أو "المخابرات الأميركية"، وأنه مؤامرة أميركية لاحتلال أفغانستان والعراق والهيمنة على مقدرات وموارد المسلمين ومحاربة الإسلام في عقر داره. وأذكر أن رمزاً إسلامياً شهيراً -نصبه أتباعه إماماً للوسطية والاعتدال في مهرجان حاشد- قام خطيباً في المسجد الجامع ليؤكد إلى درجة اليقين أن أميركا تعلم "علم اليقين" براءة بن لادن وأصحابه، لكنها تحشد للقضاء على المسلمين بدافع صليبي حاقد! لكن من أين لذلك الرجل بهذا اليقين؟! يقول إن "أمير المؤمنين" الملا عمر أخذ على بن لادن والضيوف العرب، عهداً بأن لا يعتدوا على أية دولة وقد بايعه بن لادن على السمع والطاعة، فلا يجوز له أن ينقض عهده شرعاً وديناً! كما أن الرجل ليس عنده من وسائل الاتصال ما يمكنه من تنفيذ مثل هذا العمل الكبير! أما الذين اعترفوا بمسؤولية "القاعدة"، فقطاع كبير منهم برروا العمل العدواني بذرائع شتى منها: أنه رد فعل انتقامي ضد مظالم أميركا للمسلمين، ولانحيازها الأعمى لإسرائيل، وتآمرها المستمر على المسلمين... فهو يأتي من باب الثأر والانتقام للكرامة الجريحة ورداً للاعتبار و"الشرف"، ورسالة للإدارة الأميركية بأن المسلمين لا يستكينون للظلم والمذلة! وهناك من ذهب إلى أن هذه الهجمات المدمرة تأتي لإجبار أميركا على الخروج من المنطقة وسحب قواتها وإغلاق قواعدها وفك تحالفاتها السياسية والعسكرية مع دول المنطقة، انطلاقاً من أن بعض الدول تستظل بالحماية الأميركية في مواجهتها لخلايا "القاعدة" ومخططاتها العدوانية الرامية إلى إحياء دولة دينية تطبق الشريعة الإسلامية وفق النموذج الطالباني الذي يعد "النموذج المثالي" للدولة الدينية في منظور زعيم "القاعدة" وأتباعه وأنصاره والمشايخ المنظّرين للفكر المنغلق. وهناك من رأى أو فسّر هذا العمل العدواني وسائر العمليات التفجيرية والانتحارية من قبل الجماعات التي ترفع شعارات دينية جهادية، بأنه رد فعل لمظالم واستبداد الأنظمة العربية الحاكمة إزاء الإسلاميين عامة، وما يواجهونه على أيديها من قمع واضطهاد وتعذيب وسجون وتضييق في المعيشة وحرية الحركة وحرمان من الحقوق الطبيعية وانتهاك للكرامة... مقابل السماح للعلمانيين بالهيمنة على مناصب التوجيه والتوعية والإعلام والتعليم، لدرجة استفزاز الإسلاميين ومحاصرتهم وإبعادهم! وهناك من حمّل الأوضاع السياسية والاقتصادية المحبطة مسؤولية العنف عامة والعمل الإرهابي خاصة، وبعضهم رأى في خروج المرأة وتبرجها واختلاطها والتحلل الأخلاقي بشكل عام باعثاً رئيسياً لهذا العنف المتصاعد! ومع تفهمنا لكافة وجهات النظر المفسرة أو المبررة للعمل العدواني ضد الآمنين المسالمين، سواء من المسلمين أو غيرهم، إلا أنني أراها تتجاهل "أصل الداء" في عملية مراوغة وخداع للذات، إما بإعفاء الحركات المتطرفة من المسؤولية عن الأسباب الكامنة والمؤدية إلى استشراء العنف في المجتمعات الإسلامية، أو بتبريره عبر إلقاء اللوم على العمليات العدوانية التي ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين الأبرياء، واعتبارها "مظالم" دفعت أولئك المعتدين المتحمسين دينياً للعدوان. والحقيقة أن ثمة "كراهيات مُعمّقة" مترسخة في النفوس ومهيمنة على العقول وموجهة للسلوك. فالحياة نعمة عظيمة وهي عطية الخالق، والإنسان يولد محباً للحياة، لكن "ثقافة الكراهية" التي يتشربها الفرد صغيراً ويتبرمج عليها، تجعله كائناً عدوانياً يفضل الموت على الحياة وبخاصة أن هناك من يحرّضه باستمرار ويستصرخه بأن عمله (جهاد) يحبه الله تعالى ويرضاه، والحور مكافأته، والجنة مأواه! إنها إفرازات "ثقافة الكراهية" المترسخة في التربة المجتمعية، لم تكن مجتمعاتنا القديمة بهذا العنف الأعمى الذي يستسهل القتل الجماعي للأبرياء من غير أي تأنيب للضمير! لقد عاش الآباء والأجداد في سلام مع الذات وفي مصالحة مع الآخر، وتعاملوا مع شعوب الأرض من غير عقد، لكن وفد على الساحة الخليجية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فكر متطرف معاد للحياة، تم زرعه ورعايته من قبل ثلاثة تيارات سياسية ودينية نجحت في غزو ثقافة الخليج المتسامحة: التيار التكفيري الديني، تيار الإسلام السياسي، التيار القومي (الناصري والبعثي)، وأدى التلاقح والتفاعل بينها إلى إفراز "ثقافة الكراهية" ضد الآخر المحلي المخالف وضد الآخر الغربي وضد التيار الليبرالي. "ثقافة الكراهية" هي توليفة من عنصرين متضجرين (التكفير والتخوين)؛ الديني يكفر والقومي يخون، في ادعاء شمولي يحتكر الدين والوطنية. وما كان لهذه التوليفة أن تكون متفجرة إلا بفعل التحريض المستمر من منابر وفضائيات ومواقع إلكترونية، وهؤلاء الشباب هم ضحايا ووقود ثقافة الكراهية! ولا خلاص ولا بديل إلا "ثقافة السلام والتسامح" كما دعا إليها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، بمناسبة الذكرى العاشرة لاعتداءات 11 سبتمبر. د. عبدالحميد الأنصاري كاتب قطري د