تدافعت المواقف الأميركية، بدءاً من أوباما وانتهاء بخبراء مكافحة الإرهاب، للقول إن الذكرى العاشرة لهجمات 11 سبتمبر تؤشر إلى أمرين: هزيمة تنظيم "القاعدة"، وعودة أميركا القوية. وفي أحسن الأحوال يمكن اعتبار هذا التقويم نسبياً. فـ"القاعدة" لم تعد كما كانت عام 2001 لكنها أصبحت ظاهرة تتعرض لتغييرات لا تلبث أن تتكيف معها. ومن المؤكد أنها ضعفت، وأن التعاطف معها تراجع، غير أنها كانت ولا تزال كياناً يعمل بطريقته وبعقليته ولا يقيس نجاحاته أو اخفاقاته بـ"الجماهيرية" التي يتمتع أو لا يتمتع بها. ومن الطبيعي أنها ستهزم وتزول، بمعزل عن الوقت الذي يستغرقه ذلك، لأنها ليست دولة ولا هي تنظيم سياسي مزود ببرنامج يرمي إلى رفاه الأمة. طبعاً، لديه شعارات يمكن أن تلتقي مع مطالب شعوب عربية ومسلمة، أما العنف الإرهابي الذي اتخذه أسلوباً ووسيلة، فتبين بوضوح أنهما لا يحققان سوى القتل والدمار. أما أميركا القوية فهي بلا شك الأقوى عسكرياً في العالم، إلا أن الحرب على الإرهاب والحروب الانتقامية التي شنتها بعد هجمات 11 سبتمبر أوضحت لها حدود الجدوى من استخدام هذه القوة، إذ أن الدولة العظمى الوحيدة تخلّت عن منزلتها لتصبح أشبه بـ"تنظيم" مماثل أملاً في القضاء على "القاعدة"، لكن "الانتصارات" الوحيدة التي سجلتها تحققت فقط عندما تصرفت كـ"دولة" ذات أذرع طويلة وفاعلة، بدليل أنها بهذا الأسلوب توصلت إلى تصفية عدوها الرقم واحد أسامة بن لادن، خصوصاً أن قتله غدا هاجس أي رئيس أميركي يريد إثبات أن سلوكه الأمني الثأري لم يبتعد عن رغبات الجمهور الأميركي. سواء كانت لـ11 سبتمبر ووساوسه علاقة بالحال الراهنة لأميركا أم لا، فإن حتى دولة عظمى لا تستطيع الادعاء بأنها خاضت حروباً مكلفة بشرياً ومالياً ومعنوياً من دون أن تتأثر أو يرفُّ لها جفن. ففي حين أن "القاعديين" يتحركون ويضربون بأقل كلفة مالية وبكلفة بشرية لا يبالون بها أو يعتبرونها محفزة للاستمرار، كان على الأميركيين أن يسخروا كل الإمكانات لضمان التوصل إلى أفضل نتائج في مكافحة الإرهاب بل القضاء عليه. ومع ذلك فلا شيء مضموناً، إذ أن تحليل العديد من العمليات في العراق وباكستان، أو انطلاقاً من اليمن، أظهرت أن "القاعدة" طوّرت أساليبها وبات "العمل الكبير" المتوقع افتراضاً من جانب الخبراء مستنداً إلى أسلحة بسيطة وبالغة الفاعلية، نووية أو كيمياوية أو بيولوجية. ورغم أن هذا مجرد افتراض مؤرّق فإنه يؤكد اعتقاد الخبراء بأن "القاعدة" تتطلع الآن إلى عمليات "نوعية". إذاً، فالحذر يبقى النصيحة اليومية، وباتت مئات الأجهزة تسهر على إدامة يقظته، ويعوّل على تلك الأجهزة للقول إن أميركا أكثر أمناً بعد عشرة أعوام على الكارثة. صحيح أن مئات العمليات والمحاولات أجهضت هنا وهناك، بعضها القليل صحيح وبعضها الكثير مجرد إنذارات كاذبة، إلا أن الولايات المتحدة لم تشهد منذ 2001 أي عملية خطيرة، ما يعني أنها كسبت فعلاً التحدي الداخلي، أما الخارجي فينتظر. والواقع أن العقد المنصرم استطاع أن يؤكد مقولة إن أميركا العليلة تعني عالماً عليلاً، وهو ما أمكن تلمسه ليس فقط في المعاناة التي أعقبت الهجمات الإرهابية، وإنما أيضاً في الأزمة المالية وفي التراجع الاقتصادي وبالأخص في انحدار هيبة "السلطة العالمية" الضرورية لمعالجة النزاعات الإقليمية ذاك أن الانشغال الأميركي بتداعيات الحروب الثأرية والأزمات المالية لم يؤد إلى إشغال العالم كله وتعطيله. ثمة مثالان على الأقل يدلاّن إلى مصائب أميركا كانت فوائد للبعض: الصين التي نشطت بطاقة هائلة لترتقي في زمن قياسي إلى مصاف دولة عظمى ما لبثت أن أصبحت دائنة لأميركا، وإيران التي استثمرت حربي أفغانستان والعراق، خصوصاً العراق، وطوّرت برنامجها لترتقي إلى نادي الدول النووية وتصبح بالتالي تحدياً ينافس النفوذ الأميركي في المنطقة. رغم أن 11 سبتمبر بدأ بصورة واضحة لبرجين يحترقان ويتساقطان، فإن ركام الدمار طمر كماً هائلاً من الألغاز والتعقيدات. شاء التحقيق الأميركي في الحدث أن يختزل أسباب حصوله بخلل في التنسيق بين الأجهزة الأمنية وقصور في التنبه للمعلومات والإنذارات التي سبقته. ربما كان ذلك صحيحاً تقنياً، وقد وضعت الأنظمة والميزانيات لمعالجته. لكن هذا "التحقيق"، في الجزء المعلن منه، بدا سطحياً في قراءة الأسباب غير الأمنية كدوافع الإرهابيين وأهدافهم، إذ اختصرت بالتطرف والتعصب الديني والعداء الفطري للغرب وأميركا. وبالتأكيد أخفق التحقيق في تحديد أسباب هذا العداء، والأهم أنه لم يكتشف لها أثراً في السياسة الخارجية الأميركية. وحتى بعدما تورطت الولايات المتحدة في الحروب اللاحقة لم تفهم أن سياساتها جعلت إنجازاتها العسكرية إخفاقات. قليلة هي الإشارات في الذكرى العاشرة إلى تلك الحرب غير المباشرة التي خاضتها أميركا، بعد 11 سبتمبر، عندما أعطت إسرائيل ترخيصاً لاستغلال الحرب على الإرهاب غطاء للإجهاز على الفلسطينيين شعباً وسلطة واقتصاداً. ورغم أن واشنطن تتطلع إلى اليوم الذي تسحب فيه جنودها من العراق وأفغانستان، إلا أنها لا تدعو إسرائيل ولا تضغط عليها لتحديد برنامج للانسحاب وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية. وهذا في حد ذاته تجديد لـ11 سبتمبر وإيذان بإمكان تكراره.